ثمة قناعة أو تصور يعبّر عنه الروائي إبراهيم نصرالله في حديثه عن الحروب تقول "إن الله لم يخلق وحشًا أسوأ من الإنسان، ولم يخلق الإنسان وحشًا أسوأ من الحرب". تعبيرًا عما تتركه الحروب من أثر على الأموات والأحياء المهزومين بشكلٍ خاص. وللموت رهبته كما نعلم، من هنا نود الانطلاق في حديثنا التالي، في الذكرى الـ50 لحرب 1967 وما بعدها، أي الفترة التي أعقبت الحرب.
إن الله لم يخلق وحشًا أسوأ من الإنسان، ولم يخلق الإنسان وحشًا أسوأ من الحرب
غيرت الهزيمة آنذاك في طريقة وشكل العالم العربي برمته فأعادت تشيكله مرة أخرى، وربما لا زالت تؤثر حتى الآن على طرق الإدارة والتفكير لدى الساسة المصريين، بل على الإنتاج الأدبي أو السينمائي الذي يتناول الحرب، بالتحديد مع بُعد ثقة العدو وشعوره بالضعف والانكسار الذي نشعر به، والذي ظهر جليًا على عدد من المصريين ولا زال يظهر مع كل ذكرى للهزيمة. ولكي نكون أكثر تحديدًا، نود أن نجيب عن السؤال الأشمل والأعم في الأمر، وهو كيف يعيش الناس بعد الهزيمة؟ إذ لن يقدر لنا أن نعلم ماذا يحدث لهم بعد موتهم.
ربما يعبّر فيلم "العمر لحظة" عن تلك الحالة التي أعقبت هزيمة 67. هذا الفيلم مأخوذ عن مسرحية كانت تحمل نفس الاسم للكاتب والروائي يوسف السباعي أحد الكتاب المصريين، كان يعمل ضابطًا في القوات المسلحة وبالإضافة لهذا كان دبلوماسيًا ووزيرًا متميزًا فيما بعد بحسب آراء كثيرين. وكان الفيلم من إخراج محمد راضي الذي اهتم بتقديم أعمال سينمائية عديدة بعد حرب أكتوبر، وإنتاج بطلة العمل الفنانة ماجدة. وعرض في أواخر سبيعينات القرن المنصرم.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الإنسان يعيش مرة واحدة" من روائع سينما الثمانينات الخالدة
تبدأ الأحداث في أعقاب الهزيمة، حيث تعيش الصحفية نعمت (ماجدة) مع زوجها عبد القادر الذي يلعب دوره الفنان أحمد مظهر، ويعمل رئيس تحرير في الجريدة ذاتها التي تعمل بها نعمت، وبينما تتحمس الأخيرة للعمل الوطني والتعبير عن آلام النكسة بالانغماس في العمل التطوعي مع الجنود على الجبهة والحديث عنهم، يظهر عبد القادر بدور رجل الدولة الذي يعلم ما لا يمكن أن يتحدث عنه من ضعف وانهزام داخل الجيش.
وفي طريقها إلى زيارة إحدى المستشفيات المخصصة لمصابي الحرب؛ لإجراء بعض الحوارات مع أهالي الجنود والضباط المصابين، يأتي التأكيد المباشر والواضح طوال الفيلم على لسان أحد الضحايا بأن "الدم غالي والأرض غالية ولكن عشان مصر تعيش، أغلى الناس بتموت" وتأكيد الرسالة من الجميع، حيث يفتقد فيلم "العمر لحظة" منذ البداية لأي رمزية فنية أو تعبير يترك أمره للمشاهد أن يستنتجه أو يفهمه بطريقة غير التي يريدها صانعو الفيلم، وربما يعبّر عن هذا الرسالة الواضحة التي تظهر في البداية لتقديم خالص الشكر بتعاون هيئة أركان القوات المسلحة المصرية لأسرة الفيلم.
ومع أول زياراتها، تصبح الصحفية نعمت هي وصلة الحب الأساسية لأحد مصابي الحرب عبد العزيز، الذي يلعب دوره الفنان أحمد زكي وحبيبته ناهد الشريف. حيث يمكن أن نعتبر الصحافة والإعلام آنذاك بمثابة وسيلة الاتصال الوحيدة بين من فرقتهم تلك الحرب.
غيرت هزيمة 67 في العالم العربي برمته، فأعادت تشيكله مرة أخرى، ولازالت تؤثر حتى الآن على طرق الإدارة والتفكير لدى الساسة المصريين
تتخلل سردية فيلم "العمر لحظة" بعض المشاهد التي تحمل الكثير من الدماء والقتل والرعب وأنين الأطفال، في الوقت الذي تحاول نعمت الصحفية الكتابة باستخدام كافة الشعارات والديباجات الوطنية التي على ما يبدو لا تناسب حجم الدمار المتواجد، أو حتى التي تعيشه نعمت ذاتها على المستوى الشخصي، حيث يتركها زوجها ويحاول الدخول في علاقة مع امرأة غيرها، ويمنع نشر مقالاتها التي تحاول تسليط الضوء على جنود الجبهة الذين كانوا ضحايا لتخطيط سيئ واندفاع طائش لقيادة ربما لم تضع في مخيلتها كل هذه الخسائر. بيأسٍ تام يتعامل الرجل الذي يعلم حقيقة الأمر لكنه يحاول بشتى الطرق محاولة نسيانه أو تجاهله.
وربما يعبر موت الجندي عبد العزيز في الوقت الذي يتم التحضير فيه لزفافه تعبيرًا واضحًا عما يمكن أن نتصوره عن الحالة التي كانت فيها الدولة آنذاك، فيعبّر مشهد الزفاف في تصور لفهم آخر غير السياق الذي يضعه فيه الفيلم عن جهل وتغييب الجمهور البعيد عن الأحداث والذي لا يعلم منها إلّا المحدود جدًا، بينما يموت الجنود هناك ولا يسمع عنها أحد، تاركين آذانهم إلى الخطابات الملحمية التي يبشر بها القادة بالصمود والبطولة.
اقرأ/ي أيضًا: أفضل 14 أداء تمثيليًا في تاريخ السينما (2-2)
يحكي فيلم "العمر لحظة" عن معركة شدوان التي يمكننا أن نعتبرها بارقة أمل صغيرة في الفترة ما بين هزيمة 1967 حتى انتصار أكتوبر 1973، بدأت المعركة ضد قوات العدو في يناير/كانون الثاني 1970، ومنطقة شدوان بحسب المصادر هي "عبارة عن جزيرة صخرية منعزلة لا تزيد مساحتها على 70 كم، وتقع بالقرب من مدخل خليج السويس وخليج العقبة بالبحر الأحمر، وعليها فنار كبير لإرشاد السفن، وتؤمن بواسطة مجموعة من قوات الصاعقة المصرية".
وقامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بهجوم عنيف على الجزيرة أواخر يناير/كانون الثاني، واستمرت المعركة عبر المجال الجوي والبحري لساعات، بين كتيبة المظلات الإسرائيلية وسرية الصاعقة المصرية. وبعد قتال عنيف ومرير استمر 36 ساعة كاملة خاضته ببسالة قوة مصرية صغيرة اضطرت القوات الإسرائيلية التي تقدر بكتيبة كاملة من المظليين للانسحاب من الأجزاء التي احتلتها في الجزيرة.
بالتزامن مع معرفة نعمت بخيانة زوجها يظهر أحد الضباط المصابين (محمود) الذي يحاول التقرب منها، نتيجة ذلك تحاول أن تبادله حبها هي الأخرى، وأثناء لقائهم في أحد النوادي، ومع لعب الطفلة (ابنة الضابط) في حمام السباحة، يستمعون في الراديو إلى خبر مقتل الأطفال في مجزرة بحر البقر 1970، حيث "قصفت طائرات من طراز فانتوم مدرسة بحر البقر المشتركة في قرية بحر البقر بمركز الحسينية بمحافظة الشرقية في مصر، وأدت إلى مقتل حوالي 30 طفلًا وإصابة 50 آخرين، وتدمير مبنى المدرسة بالكامل"، ربما يحمل هذا المشهد كل ما يمكن تصويره من خراب ليس فقط لدى مدرسة بحر البقر، بل لما تعاني مصر بالكامل في ذلك الوقت.
يعبّر فيلم "العمر لحظة" عن تلك الحالة التي أعقبت هزيمة 67. الفيلم مأخوذ عن مسرحية كانت تحمل نفس الاسم للكاتب يوسف السباعي
ربما يمكننا فهم أن تلك الحرب خلفت جرحًا نفسيًا جسيمًا في الشارع المصري على المستوى المدني، أكثر مما خلفته في نفوس الجنود والمصابين المصريين أو العسكريين بشكل عام، عبرت الهزيمة عن ضعف الجميع، وبالرغم من كونها لم تصب المدنيين إلا أنها قتلت أوهامهم وأحلامهم عن الجيش الذي لا يمكن هزيمته.
مقتطفات من الفيلم
*عبد القادر: فيه فرق بين كبير جدًا بين المخاطرة وبين الانتحار، موقفكم دا مجرد حماس واندفاع أعمى، ع العموم إذا كان الدافع هو الاحساس بالوطن، فالأولى بشباب زيكم إنو يركز على دراسته وتسلحه بالعلم
شاب جامعي: دا منطق الاستلام يا أستاذ عبد القادر
*عبد القادر: قصر الكلام إنكم لازم تسيبو قرارات الحرب والسياسة للسياسيين اللي فاهمين أسرارها أكتر مني ومنكم.
** الصحفية نعمت: طب ليه سياتك مبتديهمش فرصة الكلام
*عبد القادر: عمر الكلام ما هيجيب نتيجة
** نعمت: أبدًا المسألة مسألة شجاعة وحرية رأي، مدام تقدر ليه مبتناقشهمش
*أنا مش عايز أزود التمزّق اللي هما فيه
**بالعكس دول شباب مناضل غير ملوث
*عبد القادر: يعني عاوزاني أقولهم إيه، أقولهم إن لو قواتنا نزلت القنال، إسرائيل هتغطيها بنابالم درجة حرارته تشوي السمك اللي في القاع.
**نعمت: دي مبالغة منك يا أستاذ عبد القادر
*عبد القادر: دي حقيقة واضحة.
قبيل النهاية يختصر هذا الحوار الكثير من المشاهد التي يمكن أن تحلل الأمر، رئيس التحرير (عبد القادر) الأكثر علمًا ودراية بما آلت إليه الأمور في حواره مع الصحفية التي تريد الحرب كغيرها من المصريين بدون أن تفهم حقيقة الوضع، أو ربما لا تريد أن تصدقه.
اقرأ/ي أيضًا: