10-يناير-2021

خالد تاجا في دور كريم

"أيها الطوفان والأعاصير انهمري، وأنتَ أيها الرعد الذي يزعزع الكلّ، اضرب هذه الكرة الأرضية السميكة حتى تصيرَ مسطحةً ملساء، صدّع قوالب الطبيعة وبعثر جميع البذور التي ينمو منها الإنسان العاق".

يرصد فيلم "الليل الطويل" استنشاق ثلاثة سجناء سياسيين هواء الحرية لأول مرة بعد عشرين عامًا من الاعتقال

بهذه الكلمات المأخوذة من مسرحية "الملك لير" لشكسبير تبدأ أولى مشهديات فيلم "الليل الطويل"، هذا الفيلم السوري الذي تمّ إنتاجه في عام 2009، والذي هو من كتابة هيثم حقي وإخراج حاتم علي.

اقرأ/ي أيضًا: حاتم علي.. في ضرورة القراءة

تبدأ كاميرا حاتم علي الفيلم بمشهدية حسن "أبو علي" (نجاح سفكوني) وهو يدخل إلى كهفٍ معتم ويُلقي هذه الكلمات وحوله تزمجر أصوات الرياح والعواصف وتتعالى أصوات الأمطار والبروق والرعود.

يقولُ حسن كلماته تلك ثمّ يستيقظ بعدها ليكشفَ لنا أنّه كان يحلم، وأنّه يتواجد في عوالم أخرى ربّما تكون أكثر عتمة من ذلك الكهف الذي حلمَ أنّه يتواجد فيه.

إنّ تلك العوالم هي عوالم أقبية السجون التي تأتي ظُلمتها في العادة لتلتهم الضوء في الكيان الإنساني الذي يقبع فيها وتُحيله إلى شبحٍ باهتٍ ومعتمٍ بلا روح.

يستيقظ حسن، ذاك الممثّل المسرحي الذي كان يحلم بأنّه يُمثّل مشاهد إحدى المسرحيات، ويظهر لنا وهو يقبع مع ثلاثة من رفاقه هم كمال (سليم صبري)، وماجد (حسن عويتي) وكريم "أبو نضال" (خالد تاجا) في غرفة عفنة تتكدّس فيها أربعة أسرة متلاصقة، ليتبيّن لنا أنّها إحدى أقبية السجون السورية وأنّ لها بابًا حديديًا بقفلٍ صدئٍ وقضبان، وأنّ هؤلاء الأربعة الذين يبدؤون طقس استيقاظهم الصباحيّ فيها هم معتقلون على خلفيات سياسية.

السجين السوري في فيلم "الليل الطويل" يُذكّر بالرسالة التي كتبها الأسير الفلسطيني وليد دقة بعد عشرين عامًا في السجون الإسرائيلية وكتب فيها عن زمن السجن أو "الزمن الموازي"

وفي طقسِ الاستيقاظ الصباحي لهؤلاء الأربعة هناك فطورٌ يُعدّ وحوارات تُجرى، يدور بينهم نقاش حول أحوال البلد التي يتلقون أخبارها من الجرائد الرسمية المحلية التي تُعطى لهم، ويُعبّر كلّ واحد منهم عن عدم ثقته بالأخبار التي تُلقى إليه عبر هذه الجرائد، يقول كمال: "ما عندي أي معطيات بالأول لازم نصير برة حتى نشوف الصورة الشاملة"، فيردّ حسن عليه: "يسلم تمك أستاذ كمال أول تفصيل بالتغيير إنو نكون برة".

اقرأ/ي أيضًا:

وإنّ عبارة حسن الأخيرة تأتي لتُشكّل المحور الأساسي الذي تُبنى عليه جميع محاور الفيلم فيما بعد، ففي مشهد لاحق يدخل السجان ليُنبئ ثلاثة منهم هم كمال وماجد وكريم بأن يُجهزوا أنفسهم للانتقال من السجن، فيَفهم الثلاثة أنّ الانتقال هنا هو إشارة إلى أنّ قرارًا بالإفراج عنهم قد صدر وذلك بعد تمضيتهم عشرين عامًا في السجن.

ويبدأ الفيلم هنا بتصوير رحلة خروجهم من السجن في ليلة ستمتد طويلًا، ويصوّر لنا الفيلم ردات فعل عائلاتهم وأبنائهم بعد تلقيهم خبر خروجهم، يصوّر لنا تلك النقاشات والجدالات التي تجري بين أبنائهم حول حيثيات اعتقالهم ومدى اقتناعهم بأفكار أبائهم ومبادئهم التي دفعوا أثمان تمسكهم بها، وقضوا في سبيلها سنوات طويلة في السجن تُعادلُ أعمارًا كاملة.

واللافت في الفيلم هنا هو ذلك الرصد الدقيق التي تقوم بها كاميرا حاتم علي لتفاصيل المفارقة التي تتولّد في تلك الليلة بين زمنين، زمن الرفاق الثلاثة كمال وماجد وكريم وهم في طريقهم نحو الحرية، وزمن رفيقهم الرابع حسن الذي ما زالَ يرزح تحت وطأة بطء زمن السجن وثقله.

يرصد حاتم علي تفاصيل استنشاق الرفاق الثلاثة لهواء الحرية، يركّز على عيونهم وهي تلتقط تفاصيل الحياة اليومية البسيطة في الشارع؛ حركات المارة، بسطات الباعة الممتلئة بأنواع الفاكهة والخضار، ألوان السيارات، ويُسلّط الضوء على خطواتهم وهم يخرجون ويمشون في الشوارع لأوّل مرة منذ عشرين عامًا، يتبع تلك الخطوات التي تُشبه في هرولتها تحليق الطيور، يصوّر أرجلهم كما لو كانت أجنحة تطيرُ بهم وتحملهم إلى عوالم معجزة لحياة يومية أرضية حُرموا منها على مدار عشرين عامًا.

الأسير الفلسطيني وليد دقة: "في الزمن الموازي أصبحنا نمثّل وحدات هذا الزمن، نحن الزمن الذي يتصارع مع المكان وفي حالة تناقض داخلي معه، لقد أصبحنا وحدات زمننا"

ثمّ يعود بنا علي إلى ذلك الرفيق الرابع حسن الذي ما زال يقبع في الزمن الموازي، زمن السجن وعتمته، وإنّ مشهدية حسن تلك تأتي بما يُذكّر بالرسالة التي كتبها الأسير الفلسطيني وليد دقة بعد بلوغه عامه العشرين في السجون الإسرائيلية وكتب فيها عن زمن السجن أو "الزمن الموازي".

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "إلى سما".. هزمناكم في الحكايات

يكتب دقة في متنِ رسالته ويقول: "أنا أكتب لكم من الزمن الموازي، وفي الزمن الموازي حيث ثبات المكان، لا نستخدم نفس وحدات زمنكم العادية كالدقائق، والساعات... وإذا كان الزمن كمفهوم، ملازمًا للمادة هو الوجه المتحرك لها، والمكان هو ثباتها، فإنّنا في الزمن الموازي أصبحنا نمثّل وحدات هذا الزمن، نحن الزمن الذي يتصارع مع المكان وفي حالة تناقض داخلي معه، لقد أصبحنا وحدات زمننا".

ويُضيف دقة في رسالته: "إنّ الإحساس بالناس وبألم البشرية هو جوهر الحضارة، جوهر الإنسان العقلي هو الإرادة، وجوهره الجسدي هو العمل، وجوهره الروحي هو الإحساس، والإحساس بالناس وبألم البشرية هو جوهر الحضارة البشرية... وهذا الجوهر بالذات هو المستهدف في حياة السجين على مدار الساعات والأيام والسنين، المستهدف هو أي علاقة خارج الذات، أي علاقة يمكن أن تقيمها مع البشر والطبيعة... المستهدف هو الحب وذوقك الجمالي والإنساني".

وبالعودة إلى الفيلم وتفصيلاته يُمكن القول بأنّ الفيلم قد أجاد الانطلاق من النقطة التي بدأ منها واختزلتها عبارة حسن في أنّ "أول تفصيل بالتغيير إنو نكون برة"، وأنّه أجاد استخدام تلك النقطة لشرح معنى "الزمن الموازي" كما طرحها دقة في رسالته السابقة،  فها هم الرفاق الثلاثة كمال وماجد وكريم قد تحرروا من موقعهم في زمن السجن الموازي والثابت الذين كانوا يتصارعون معه دائمًا ويُحاولون الدخول معه في معركة يسبقونه فيها حتى لا يتحولوا إلى مستحاثات ووحدات زمنية لامتحركة يتوقف الزمن عندها عند لحظة اعتقالها، وها هم يتحركون ويستعيدون إحساسهم بالناس وبالحياة وبالبشر، وها هم يستعيدون جوهرهم الروحي الكامن في الإحساس، إنّهم الآن يُعيدون بناء علاقتهم مع العالم الخارجي الذي يقبع خارج ذواتهم، فيُراقبونه ويرصدون تحولاته ومتغيراته الحقيقية، ويحاولون الاستمتاع بتفصيلاته الجمالية البسيطة؛ بألوانه وخطوطه وأشكاله ومنحنياته، فهم الآن خارج الزمن الموازي أو بالعبارة العامية "براته".

يصارع المعتقلون زمن السجن الموازي والثابت الذين يُحاولون الدخول معه في معركة يسبقونه فيها حتى لا يتحولوا إلى مستحاثات ووحدات زمنية لامتحركة

أما رفيقهم الرابع حسن فهو ما زال يقبع داخل ذلك الزمن الثابت والجامد والموازي، يتحرّك فيه كما لو هو وحدته الزمنية الثابتة، فلا يعرف شيئًا عما يجري خارجه، ولا يدري عن متغيراته وتحولاته وتبدلاته سوى ما تُنبئه به الصحف الرسمية المحلية التي تُلقى إليه عبر سجانه، ولا يُسمع في زنزانته سوى قطرات الماء وهي تنزل من مكانٍ ما في رتابة وملل يدعوان إلى الجنون.

اقرأ/ي أيضًا: تأملات سريعة في رحيل خزّاف الصورة

في مشهدية أخيرة في الفيلم يظهر حسن، ذلك الرفيق الرابع الذي ما زال يقبع في زمن السجن الموازي ملتحفًا في بطانية قديمة، يرتجف من البرد والوحدة والثبات، ويُحدّث نفسه في عبارات أشبه بالتمتمات العالية، يقول في تلك التمتمات: "ما بالكم تشتهون أن تكونوا كالفطائر في منتصف الليل، وتترقبون بابتهاج انبلاج الصباح، فلقاء تخاذلكم يا سادتي الضعفاء، أخذت شمس الضحى تتباطأ، أما أنا فرجلٌ مظلوم أكثر من كونه ظالمًا، عقلي بدأ يُصيبه الخبل"؛ يُتمتم حسن هذه العبارات المأخوذة من مسرحية "العاصفة" لشكسبير، يقولها بصوته المرتجف وهو ينظر للأعلى، وكأنّه يؤدي دورًا مسرحيًا؛ إنّه في هذا الدور يتطلّع إلى أعلى،  يترقّب شيئًا ما، ينتظرُ أمرًا ما، ويتوق إلى معجزة ما تُنهي ليله الطويل فينبلج الصباح، وتُشرق شمسُ ضحىً جديدة تُنير عتمة أزمنة تُدعى أزمنة السجن أو أزمنة الزمن الموازي.

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "الاعتراف".. الخلطة التي يفضلها النظام السوري

9 وثائقيات تناولت الحرب السورية