حاز الفيلم الوثائقي الطويل "طعم الإسمنت" Taste of Cement 2017 للمخرج السوري زياد كلثوم على جائزة أفضل فيلم وثائقي بعد العرض الرسمي الأول له في مهرجان فيزيون دو رييل في سويسرا.
يروي فيلم "طعم الإسمنت" حكاية 200 عامل بناء سوري هربوا من سوريا خلال الحرب بعد أن دُمرت بيوتهم، ويعملون اليوم في إعادة إعمار مدينة بيروت، يعيشون في حفرة تحت الأرض، يخرجون منها كل يوم نحو الأعلى فقط في بناء عالٍ مطل على مدينة بيروت.
ما يعطي لحكاية العمال السوريين بفيلم "طعم الإسمنت" تلك فرادة وخصوصية كونها تقوم على خزان من التفاصيل والمقاربات التي يعيشون فيها
ما يعطي لحكاية العمال السوريين تلك في فيلم "طعم الإسمنت" فرادة وخصوصية كونها تقوم على خزان من التفاصيل والمقاربات التي يعيشون فيها؛ فالحياة بالنسبة لهم كما يصفها مخرج الفيلم زياد كلثوم باتت دائرة إسمنتية هربوا منها في سوريا بعد أن دُمر البيت الإسمنتي الذي بُني خلال الحرب الأهلية اللبنانية، واليوم هم في لبنان الذي يبنى على مهل بعد نهاية الحرب.
عندما تبدأ الحرب في بلد ما، يذهب البناؤون إلى بلد آخر انتهت الحرب فيه، وينتظرون نهايتها. ليعيشوا ما بين نهاية حرب وبداية أخرى ويذوقوا طعم الإسمنت الذي عشش في الفم والأنف والعيون، هذا ما يقوله صوت الفيلم بعد أن وقع البيت على رأس أحد العمال خلال القصف في سوريا.
اقرأ/ي أيضًا: 9 وثائقيات تناولت الحرب السورية
يروي المخرج زياد كلثوم لألترا صوت تفاصيل حكاية الفيلم، وحكاية السوريين الذين ذاقوا طعم إسمنت بيوتهم، بعد أن صار البيت بين الأسنان وانطمر أغلبهم فيه، فينقل لنا بشكل مجازي صورة بلدٍ إسمنتي مقصوف علق أهله تحت أنقاضه.
يقول زياد كلثوم "هي ربما حياة كيس الإسمنت، من منشئه إلى نهايته بين حجارة البيوت وجدرانها، وبين دورتي حياة كيس الإسمنت واحدة انتهت في سوريا إلى غبار، وواحدة تبدأ في بلد انتهت فيه الحرب الآن، ويعيد إعماره عامل تهدم بيته وتحول إلى غبار إسمنتي".
على هامش الحكاية الكبيرة هناك قصة أخرى يرسم الإسمنت أحد تفاصيل الحنين فيها، وهي قصة واحد من العمال، نرى توهج وزرقة بيروت معكوسة في عينيه، ولكن بشكل آخر لم يعتد عليه أُناس بيروت الجوالون فيها.
يحكي لنا زياد كلثوم هذه القصة والتي يرويها بصوته أيضًا في فيلم "طعم الإسمنت" فيقول: "هرب الولد من سوريا ليجد نفسه محاصرًا بالإسمنت بطريقة ثانية، هو الذي اعتاد على رائحة الإسمنت التي شكلت تفصيلًا ملأ حياته ولونها، يتذكر عندما كان يعود والده إلى سوريا بعد رحلة عمل شاقة من بيروت، كانت تفوح منه رائحة الإسمنت، والتي صارت بالنسبة للولد رائحة السفر والغياب.
في أحد الأيام يدخل الولد إلى المطبخ ليجد صورة كبير لشاطئ البحر وأشجار النخيل، وشيئًا فشيئًا صار ورق الجدران عبارة عن صورة لبحر بيروت معلقة على الحائط.
عندما بدأت الحرب السورية، رغب بالهرب من واقعه الصعب الذي عاش فيه تفجر وتهدم البيوت فوق رؤوس أصحابها. فكر حينها بالدخول إلى ورق الجدران حيث البحر، فأخذ يلمس الجدار والبحر، في تلك اللحظة وقع البيت عليه فشعر بأن البحر هاج وارتفع صوته وطمره، كان ذلك خلال قصف البيت وانهياره. هرب بعدها إلى بيروت ليجد نفسه في حفرة إسمنتية أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: وثائقي "العساكر".. هل يستحق كل هذا الضجيج؟
العمال السوريون الممنوعون من التجول في المدينة بعد الساعة السابعة مساءً، لا ترى عيونهم بيروت التي يبنون بيوتها المستقبلية إلاّ وكأنها أشبه بورق جدران يلفهم.
ما بين إعادة الإعمار والحرب يجد المخرج زياد كلثوم علاقة قوية ينتجها ويحركها الإسمنت، هي كروابط زمنية حولت مجموعة كبيرة من عمال البناء إلى كتلة واحدة متحركة من لحظة الخروج من الحفرة باتجاه الأعلى حيث العمل، حتى لحظة العودة لنفس الحفرة التي يعيشون فيها.
العمال السوريون الممنوعون من التجول في بيروت بعد الـ7 مساءً، لا ترى عيونهم المدينة التي يبنون بيوتها إلاّ وكأنها ورق جدران يلفهم
تلك الدائرة الإسمنتية التي يشبهها بوكر النمل، وكأنها صارت تلخيصًا لمهنتهم الشاقة التي يحملونها أينما حلوا كرائحة أبدية لن تزول عنهم، بل وقد ذاقوها وعرفوا طعمها.
أراد المخرج زياد كلثوم لفيلمه أن يقف بين تلك المفردات التي تربط بين ماكينة الحرب وأداة الإعمار، ليخلق تواصلًا منطقيًّا بين مفاهيم البناء والدمار، والتي شكلت دائرة متواصلة وخاصة بين الحرب السورية والحرب اللبنانية في بلدين على ذات الحدود بُني كلاهما في فترة انهيار الأخر، وذلك من خلال المهنة الوحيدة القادرة على تفسير حالة الدمار ونقل حالة الإعمار.
يخبرنا مخرج فيلم "طعم الإسمنت" بترقبه بدء جولة عالمية، أوروبية وعربية، لم يتبين توقيتها تمامًا، ولكن جمهور السينما الوثائقية السورية الجديدة سيكون على موعد قريب مع حكاية سورية أخرى تنضم لسلسلة حكايا تتولد من تفاصيل يومية شكلت الحرب أحد وجوهها وخطوطها.
اقرأ/ي أيضًا: