"كل منا يفقد شيئًا عزيزًا عليه، فرصًا، إمكانيات، مشاعر لا يمكننا استعادتها أبدًا. كل هذا جزء من معنى كوننا نعيش". هاروكي موراكامي-كافكا على الشاطئ.
في هذه الجملة يوضح لنا موراكامي أن الفقد وما يصاحبه من حزن وخذلان هو جزء من معنى كوننا نعيش، ولكن أسوأ ما يمكن أن يحدث أن نفقد أشخاصًا نحبهم، فالمشاعر والفرص وحتى الموهبة من الممكن تعويضهم إذا ضاعوا، ولكن فقدنا لمن نحب أسوأ أنواع الفقد وأشدهم وطأة على قلوبنا.
"لي" الذي يقوم بدوره الممثل كيسي أفليك شاب عادي تمامًا لا يملك موهبة أو وظيفة كبرى يعمل في السباكة والتنظيف، في بداية فيلم "مانشستر على البحر" نرى "لي" غريب الأطوار يحاول الابتعاد عن الكل ويفضل دائمًا الوحدة، تتتابع أحداث الفيلم ليتوفى "جو" أخوه، ويترك له ابنه الوحيد، ويكتب في وصيته أن يكون "لي" الوصي على ابنه والمسؤول عنه، ثم يعود بنا مخرج الفيلم لماضي "لي"، الذي مات أطفاله الثلاثة في حريق تسبب فيه "لي" عندما كان مخمورًا، فترك المدفئة دون غطاء وذهب ليشتري بعض الأشياء فيشتعل المنزل ولا ينجو أحد سواه هو وزوجته.
أداء كيسي أفليك بفيلم Manchester by the Sea يستحق عليه الأوسكار، فكان هادئًا تمامًا لا يطلب منا أن نتعاطف معه بالصراخ والبكاء
أحد أذكى الأشياء التي فعلها كينيث لونرجان مخرج فيلم "مانشستر على البحر"، أنه جعلنا نرى أحد الأشخاص الذين تعرضوا لمأساة كبرى في حياتهم ونحن لا نعرف عنه أي شيء فحكمنا عليه بأنه شخص سيئ، مدمن للخمر، غريب الأطوار ومتسبب في الكثير من المشاكل، ويضيع الفرص التي من الممكن أن تجعله شخصًا أفضل، ثم عرض لنا مأساته لنتعاطف معه، هذا يجعلك تشعر بما يشعر به الشخص صاحب المأساة نفسه، وكيف يحكم عليه الناس دائمًا ويقللون من حجم ما مر به.
اقرأ/ي أيضًا: "الأسطى حسن".. بداية الطريق لمملكة الترسو
يجعلك هذا تدرك دوافعه ورغبته في الابتعاد عن الكل. يجعلك تدرك أن التعافي من الأزمات ليس بالسهولة التي يتصورها البعض، وأنه ليس من المفترض أن ينسى الشخص الذي أمامك الماضي ويبدأ حياة جديدة في ليلة وضحاها.
في أحد مشاهد الفيلم يقول "لي" لابن أخيه: "أنا لا أستطيع هزيمة ذلك" مشيرًا إلى الحادث وما تبعه من أشياء جعلته خاويًا من الداخل، لا يجد للحياة معنى. فنحن نحاول دائمًا أن نتجاوز الأحزان وننساها، لكن لسنا جميعًا بنفس المشاعر، فمنا من يمكن أن يستعيد حياته بعد المأساة ومنا من ينكسر ولا يعود أبدًا، فالمشاعر شيء معقد للغاية ولا يمكن توقعه أوالتنبؤ به.
عادةً في هذا النوع من الأفلام يصيبنا الملل بعد نصف ساعة على الأكثر، ولكن المخرج تعامل بذكاء في هذه النقطة، فقصة الفيلم لم تسر في خط مستقيم، بل كان يعود بنا إلى الماضي ثم مرة أخرى إلى الحاضر، كما أنك تظل متشوقًا لتعرف حبكة الفيلم التي ظهرت في الوقت المناسب، ثم تسأل نفسك عن مصير "لي" وكيف ستنتهي قصته، فهل سيتجاوز ما حدث له، أم سيظل كما هو.
الشيء الثاني الجميل في الفيلم هو هدوؤه وعدم تكلفه. أداء كيسي أفليك الذي يستحق عليه الأوسكار كان هادئًا تمامًا لا يحاول أن يطلب منا أن نتعاطف معه، كالكثير من الممثلين الذين يحاولون الصراخ والبكاء لإثارة تعاطف الناس بأي شكل، ولكنه عرض لنا حياة هذا الشخص وجلعنا نشعر بما يشعر به، ونعيش معه أحزانه ونتعاطف معه تلقائيًا دون تكلف.
اقرأ/ي أيضًا: 7 أفلام منعت لأسبابٍ شديدة الغرابة
المشاهد الحوارية بين الأشخاص كانت أقرب للواقع ولم يحاول كاتب الفيلم وضع جمل عميقة عن معنى الحياة أوالمعاناة، ولكنه أراد أن يكون فيلمه جزءًا من حياة شخص ما تعرض لتجربة أليمة، ندخل لنشاهدها كما هي.
الحوار كان أقرب للواقع بفيلم Manchester by the Sea فلم نر جملًا عميقة عن معنى الحياة والمعاناة، فقط ما يظهر تعرض شخص لتجربة أليمة
أقرب مثال لذلك مشهد "لي" وزوجته عندما قابلها بالصدفة في الشارع، لحظات من الارتباك والحنين والخذلان والتفكير في الماضي، تجتمع مع بعضها البعض وتصل لنا بالرغم أن الحوار لم يكن فيه أي محاولة لإبهار المشاهدين، ولكن أعود لأؤكد أن هذا الفيلم جماله في بساطته.
هناك أشياء أخرى كالموسيقى التصويرية للفيلم التي كانت هادئة تمامًا كالفيلم، وأداء "ميشيل وليامز" التي قامت بدور زوجة "لي"، وهو أداء جميل، ولكن ترشحها للأوسكار عنه كان غريبًا بعض الشيء، فظهورها لم يتعد بضعة مشاهد قليلة.
في المجمل أحد أهم وأفضل أفلام السنة، ولن أتعجب إذا حدثت المفاجأة وفاز بأوسكار أفضل فيلم وتخطى منافسه "لالا لاند" الذي أصبح فوزه بأوسكار أفضل فيلم مجرد مسألة وقت.
اقرأ/ي أيضًا:
7 من أفلام شباط/فبراير.. ستفضل مشاهدتها في السينما
فيلم "The Sunset limited": الثقافة كمسألة وجودية