تُعد "نساء طروادة" للكاتب اليوناني يوروبيدس واحدة من أقدم المسرحيات المكتوبة حول مآسي الحرب وآثارها على النساء، وقد مثّلت المسرحية الكلاسيكية موتيفة مرنة لكثير من المبدعين على مر العصور لطرح رؤاهم الإبداعية انطلاقًا منها أو استنادًا إليها.
في شتاء 2014 قُدّم النص الإغريقي مسرحيًا في العاصمة الأردنية عمّان، حين وقع عليها اختيار المسرحي السوري عمر أبو سعدة لتقديمها، ثم جاءت المخرجة الفلسطينية السورية ياسمين فضّة لتوثيق مراحل الإعداد وورش العمل المسرحية لتنجز فيلمها الوثائقي "ملكات سوريا".
يروي الفيلم قصة خمسين امرأة سورية، اضطررن للجوء إلى الأردن واجتمعن في خريف عام 2013 وقررن تجسيد أسطورة طروادة الشهيرة ولكن بإسقاطاتها على المأساة السورية، وبشكل خاص في مقاربة محنة المرأة في قصة طروادة ومثيلتها في الثورة السورية.
تُعد "نساء طروادة" ليوروبيدس واحدة من أقدم المسرحيات المكتوبة حول مآسي الحرب وآثارها على النساء
في هذه المعالجة السينمائية المميزة، لم يسبق لممثلاتها اكتساب أية خبرة أو تجربة تمثيلية قبل أن يجدن أنفسهن في تجارب مماثلة لشخصيات المسرحية المأزومة بشرطها الإنساني، فهن مجموعة من النساء الناجيات اللواتي فررن من مدينة حمص السورية، يعشن وجودًا يوميًا قوامه الخوف والجزع والقلق في حاضر ملتبس، مع أفق مستقبلي يقع بين السيئ والأسوأ.
تركن منازلهن وعوائلهن المدمّرة في وطنهم الحبيب ليكابدن الحسرة والاشتياق إليهم ساعة بعد ساعة في منفاهن القريب، يتابعن أخبار الصراع عبر الشاشات والصحف، شاهدات على ضياع شوارع كانت لهن في الماضي القريب ومحرومات حتى من مجرّد رؤيتها واستعادة ذكرياتهن.
اقرأ/ي أيضًا: فلسطين والسينما المصرية.. حضور نادر
الكثيرات روين حكايات مروعة عن مفقودين: زوج، ابن، أخ. ومثل "هيكوبا"،ملكة طروادة المكلومة، كلّ منهن عانت الفقد والخسارة بطريقتها الخاصة. في واحدة من أكثر الاقتباسات تكرارًا في الفيلم تقول النساء في كورس جماعي: "هربت دموعي يا صديقاتي، فمن منكن تمنحني عيونها كي أبكي بها؟".
تقول إحصاءات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، بأن عدد اللاجئين السوريين في الأردن تجاوز النصف مليون لاجئ مع حلول خريف عام 2013 (وقت إجراء بروفات المسرحية وتصوير الفيلم) قبل أن تغلق المملكة الباب أمام معظم طالبي اللجوء السوريين.
وبينما تظلّ الأرقام عاجزة عن بيان معاناة هؤلاء والآخرين ممن بقوا في سوريا، يخبرنا محمود درويش عن الشهداء الذين يذهبون إلى النوم ويسهر على حراستهم من هواة الرثاء "ورد أقل". ما يقوم به طاقم الفيلم والممثلون شبيه بدور ذلك الحارس الذي يبشّر بالوطن والنصر القادم مهما طال الزمن.
"قد يتغير شكل السلاح، إلا أن الحرب تبدو أبدية"، وكما بكت أميرات طروادة قبل ألفي عام على مملكتهن بعد غزو الإغريقيين لها، تبكى الآن نساء سوريا على بيوتهن/ممالكهن الضائعة وبلادهن التى تداعت أمام عيونهن وهن يخرجن منها قسرًا.
تعمل النساء بمساعدة الفنانة المسرحية ناندا محمد على دمج قصصهن في المسرحية كوسيلة للتواصل مع العالم وإيصال صوتهن، وتعمل المخرجة على توظيف الإبداع الفنّي كوسيلة تحرّر من واقع مأزوم، حيث يقوم الفيلم بإيراد قصص النساء من دون وسيط، كما في العرض المسرحي، فتحكي إحداهن عن تلقيها، فجأة، خبر مقتل شقيقيها وأبيها، وتقرأ أخرى لأطفالها جملة من نصّها المسرحي: "إحساسي إنه في عندي صرخة وبدّي أصرخها خلّي كلّ العالم يسمعها"، فيما تتساءل أخرى عن فائدة ومردود ما تفعله هنا مع زميلاتها.
إنها حكاية كل امرأة سورية لم يعد" البيت بيتها، ولا المكان مكانها ولا البلد بلدها" ورغم ذلك تواصل الحياة
في الفيلم أيضًا، يحدث تناص تلقائي من المشتركات مع قصة "هيكوبا" التي فقدت مملكتها وتتتابع مشابهتهن للقصة بحالهن بين الإقامة المطمئنة في الوطن والوجود القلِق في المنفى، بين خصوصية البيت الذي كان قصرًا بالنسبة لهن ومنازل اللجوء التي انتهى بهن الحال إلى العيش فيها.
اقرأ/ي أيضًا: نزهة في الغابة.. مغامرة عجوز لا تعيد شباب الحكاية
هنا يصبح الأسى مشتركًا ومربكًا للمشاهد كما للممثلات، وربما تكون تلك الضحكات التي خرجت من الجمهور القاهري (أثناء عرض الفيلم في السنة الماضية ضمن فعاليات بانوراما السينما الأوروبية) وسيلة تعزية وسلوى له لاستكمال مشاهدة كل هذا الأسى المعروض على الشاشة، وبالتأكيد كانت تلك المواقف المرحة التي صنعتها النساء تنفيسًا لازمًا للاستمرار فيما يفعلنه وأضافت طابعًا حميميًا للفيلم.
وعلى الرغم من ضعف الفيلم من الناحية الفنية والتقنية، يُحسب للمخرجة نأيها عن إلباس فيلمها صبغة نسوية لا يحتاجها على موضوعه وشخصياته، فالنساء، اللائي تناقص عددهن أسبوعًا بعد أسبوع لأسباب مختلفة وتراوحت أعمارهن بين العشرين والخمسين، يظهرن قدرة على امتلاك قراراتهن وإرادة لإسماع صوتهن حتى أن بعضهن استمر في المسرحية مع إخفاء وجوههن خوفًا على أفراد عوائلهن الذين ما زالوا يعيشون في مناطق خاضعة لسيطرة النظام.
في ختام الفيلم تردّد النساء جملة "يا لي من تعيسة" وأيديهن فوق أفواههن، قبل أن ينزلنها ليتابعن سردًا جماعيًا حزينًا يحمل بعضًا من معاناة من دفعن أكثر الأثمان فداحة في حرب الهويّات الخاسرة، سرد تراجيدي آتٍ من مأساة قديمة قبل ميلاد المسيح يمثّل إسقاطًا رمزيًا على تراجيديا أكثر ألمًا ومأساوية.
إنها حكاية كل امرأة سورية لم يعد" البيت بيتها، ولا المكان مكانها ولا البلد بلدها" ورغم ذلك تواصل الحياة من أجل مستقبل أفضل لا يبدو قريبًا.
اقرأ/ي أيضًا:
فيلم "Borrowed time".. تعميم الرسوم المتحركة
10 حقائق مثيرة عن ثلاثية أفلام العراب