أُطْلِق فيلم Another Round بالتعاون بين المخرج توماس فينتربيرغ والسيناريست توبياس ليندهولم عام 2020. الفيلم بمخرجه ومؤلفه تجربة جديدة لهما بعد فيلمهما السابق The Hunt، الصادر عام 2012 والحائز على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي. وأما Another Round، أو ما يمكن ترجمته بالعربية "جولة أخرى"، فعنوانه الدنماركي الأصلي Druk أي "الشرب" في إشارة إلى الكحول. مدة الفيلم 117 دقيقة، ومن تمثيل مادس ميكيلسن وتوماس بو لارسن وماغنوس ميلانغ ولارس رانثي وماريا بونيفي وهيلين نيومان وسوسي وولد.
الحكاية
يحكي الفيلم قصة أربع أساتذة في إحدى المدارس الثانوية وقد أصابهم الملل بفعل أزمة منتصف العمر، بعدما تحول عملهم في المدرسة إلى عمل روتيني خال من الشغف، في موازاة طلاب من الجيل الجديد الشبان المليئين بالحياة والشباب والطاقة.
يحكي فيلم "Another Round" قصة أربع أساتذة في إحدى المدارس الثانوية وقد أصابهم الملل بفعل أزمة منتصف العمر، بعدما تحول عملهم إلى عمل روتيني خال من الشغف
مارتن، وهو مدرس تاريخ (يؤدي الدور مادس ميكيلسن) يمر بأزمة وجودية تؤثر على نظرته لنفسه، فهو شبه فاقد للروح المرحة، وعائلته المؤلفة من زوجة وولدين غير متماسكة، وطلابه غير راضين عنه. كل ذلك يجعل من حياة مارتن رتيبة وتهتز ثقته بنفسه، سيما بعد اكتشافه خيانة زوجته له، وتلقيه شكاوى عديدة من أولياء أمور الطلاب بسبب طريقته في التدريس.
لكن تحولًا كبيرًا يغير مسار حياته بعد دخوله في تجربة جديدة مليئة بالشغف والاكتشاف مع ثلاثة آخرين من أصدقائه المدرسين ممن يمرون بأزمات وجودية شبيهة بما يمر به، خصوصًا أنهم أبناء جيل واحد. تنص التجربة على تناول الكحول يوميًا بناءً على نظرية تعود للطبيب النفسي والكاتب فين سكوردرود، ومفادها بأن الإنسان يولد مع نقص بنسبة 0.5% من الكحول في دمه. وتبعًا لذلك يدخل الأساتذة في تجربة تهدف لتناول الكحول يوميًا لإشباع هذه النسبة المئوية، ومن ثم يقومون بزيادة نسبة تناول الكحول يوميًا وتسجيل نتائج تجربتهم.
الشباب والحلم
يطلعنا فينتربيرغ بلا مواربة منذ بداية الفيلم على مقولة الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد "ما هو الشباب؟ إنه الحلم. ما هو الحب؟ إنه مضمون الحلم". تشعرنا مقولة كيركيغارد بالحنين إلى كل لحظة مضت من أعمارنا، ونشعر بالمقولة لكأنها لسان حال فينتربيرغ مع ما يصحبها من ذاتية ووجدانية عميقة.
وكما يفتتح فينتربيرغ شريطه ويختمه بأغنية what A Life للمغني الدنماركي سكارليت بليجير. تمجد الأغنية الحياة وجمالها وتصفها بكونها رحلة جميلة يجب عيشها دون الاكتراث بما يقوله الآخرون. وعلى وقع الأغنية يرقص مارتن رقصته الشهيرة متحررًا من كل القيود، ومنطلقًا نحو مستقبله الجديد. الحياة تجربة ويجب عيشها كما هي بحلوها ومرها وقلقها وجنونها ورعبها وأخطائها، وهذا ما يكتشفه الأصدقاء الأربعة، غير أن أحدهم (تومي) يخسر الرهان وتهزمه الحياة فيقع أسيرًا للأسى وينتحر.
مأساة فينتربيرغ
لا يمكننا سوى أن نشير إلى أن البطل مارتن كان من المفترض أن يكون لديه ابن وابنة في السيناريو الأصلي، وكان من المفترض أن تلعب ابنة المخرج توماس فينتربيرغ (أيدا فينتربيرغ) دورًا في الفيلم، إلا أنها توفيت إثر حادث سيارة في اليوم الرابع لتصوير الفيلم وقبل تصوير أي من مشاهدها، ولذلك أشرنا إلى أن الفيلم يحمل الكثير من الذاتية والوجدانية العميقة.
وبعد المأساة التي ألمت به، صرّح فينتربيرغ أنه يفكر في التوقف عن إنتاج الفيلم، بل إنه فكر في "التوقف عن العيش"! ولكنه تراجع عن قراره وأعاد صياغة السيناريو ليصبح أكثر تأكيدًا على أهمية الحياة. يشير فينتربيرغ "لا ينبغي أن يكون الفيلم متعلقًا فقط بشرب الكحول، بل يجب أن يتعلق بإرادة الحياة". وقد تم تصوير بعض مشاهد الفيلم داخل الصف الدراسي لابنته أيدا (19 عامًا) وبين زملائها.
شخصيات قلقة!
التغييرات التي طرأت على شخصيات الفيلم بعد التجربة لم تكن بفعل تأثير الكحول "الإيجابي"، بل بفعل إعادة تعريفهم لمعنى الحياة والعيش، بعدما نفضوا الغبار عن أنفسهم بما يمكن أن يوصف بكونه ثورة على الذات والمجتمع والقيم والمفاهيم وكسر الحواجز وتخطي الخطوط الحمراء والعيش خلف الحدود المرسومة مسبقًا والمحددة سلفًا، وكل ما من شأنه أن يقولب الإنسان واضعًا إياه في إطار جامد. لكن هذه الثورة ليست مجانية ولها ثمن يمكن أن يدفع بأشكال مختلفة، فالثورة على الذات والآخرين مكلفة أحيانًا وقد تجلت بهجران زوجة نيكولاي له، وانتحار تومي، بينما كافأت الحياة مارتن وأعادت له زوجته التي منحته "فرصة ثانية"، فالحياة تجربة غير علمية ونتائجها لا يمكن التكهن بها.
يقول كيركيغارد: "استمع إلى صراخ الأم وهي تضع طفلها. أنظر إلى صراع الرجل مع الموت، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. ثم أخبرني: هل من يبدأ هكذا، وينتهي كذلك، يكون قد خلق للسعادة؟"
يشير فينتربيرغ في موقعين إلى فلسفة سورين كيركيغارد، وهي إشارة لا يمكن إلا أن نتوقف عندها. يقول فينتربيرغ إنه وضع في فيلمه كل ما تختزله الروح الدنماركية: "الكحول وفلسفة كيركيغارد" وهي فلسفة وجودية بامتياز تمامًا كما هي حال شخصيات فيلم فينتربيرغ التي تعاني من الداخل. وكيركغارد يرى بأن عدم معقولية الحياة تملأ نفس الإنسان بالقلق واليأس، والإحساس بالعجز والاكتئاب. فالإنسان لم يخلق للراحة والسعادة، وبحثه عن المتعة والسعادة، ما هو إلا هروب من القلق والاكتئاب الناتج عن الإحساس بالضياع.
يقول كيركيغارد: "استمع إلى صراخ الأم وهي تضع طفلها. أنظر إلى صراع الرجل مع الموت، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. ثم أخبرني: هل من يبدأ هكذا، وينتهي كذلك، يكون قد خلق للسعادة؟". ويرى بأن ليس هناك هروب من القلق والاكتئاب لأنهما الحقيقة المرة. فالإنسان يعاني من القلق، حتى مع عدم وجود شيء يستدعي القلق. لأن القلق، هو الخوف من الموت، الخوف من اللاشيء، الخوف من العدم. وهذه هي تمامًا الحالة التي أصابت الشخصيات وعصفت بشدة بشخصية تومي الذي أودى به قلقه وشعوره بالفراغ الوجودي إلى الانتحار، وربما يكون تومي هو الوحيد الذي هزم قلق الحياة عبر تغلبه على الخوف والإقدام على الانتحار أو "الخلاص"!
يضعنا فينتربيرغ إزاء شخصيات تشعر بالغربة عن ذاتها. ويلقي بفلسفة كيركيغارد داخل نفوس الشخصيات وحياتهم. فلسفة قوامها التجربة والممارسة، وتستند إلى مقولات كيركيغارد الوجودية الذي يقول "أنا يمكنني أن أعيش هذا الوجود، لكن لا أستطيع أن أفكر هذا الوجود".
الخلاص فردي
يعفينا فينتربيرغ من المثالية، مقدمًا لنا عبر اختبارات مارتن الصفية، نزعة البشر نحو اختيار النماذج المثالية، لكن الواقع مختلف وصادم، وبذلك يشير مارتن إلى طلابه بالقول "العالم ليس كما تتوقعون أبدًا" بعدما صوتوا للصفات التي يتحلى بها أدولف هتلر. وفي اختبار مارتن الثاني داخل الصف، وبعد اكتشافه أن معظم الطلاب يحتسون الكحول بكثرة طوال الأسبوع، فإنه يشير إليهم بالقول "من منكم سينجح بامتحان التاريخ وجسمه مليء بالكحول؟ بكلمات أخرى، من منكم سيفجر رأسه وينتحر مثل إرنست همنغواي، ومن منكم سيربح حربًا عالمية مثل ونستون تشرشل؟".
وبهذا المثال يقدم لنا فينتربيرغ مفهومه للحرية. حرية الاختيار. فالخلاص فردي وليس جماعي، وكل إنسان عليه أن يحدد ويختار بحريته القرار المناسب وأن يتحمل مسؤوليته ونتائجه. وعن تساؤل المدرسين الأربعة حول إدمانهم، يجيب أحدهم بالقول: "لا لسنا مدمنين لأننا لا زلنا نملك حرية اختيار الوقت المناسب للشرب أو التوقف عن الشرب". ويكاد يكون الرابط واضحًا إذا ما أخذنا مسار حياة الأساتذة حيث أن تومي انتحر مثل هيمنغواي، بينما كسب مارتن معركته في الحياة، علمًا أن كلًّا منهما شرب الكحول بكثرة وخضع للتجربة ذاتها.
وفي الرقصة الختامية، تحديدًا في اللقطة الأخيرة، تقف الكاميرا على مارتن وهو يقفز من الميناء إلى البحر، ولكن يتعذر علينا معرفة ما إذا كانت قفزته طيرانًا إلى السماء أم هبوطًا نحو القعر!
الإيمان!
لا يخلو الفيلم أيضًا من ذكر للإيمان، لكن دون الإشارة إلى الإيمان بالله، إنما الإيمان بالحب، والحب ركيزة كل إيمان بما فيها الإيمان بالله. وكيركيغارد يعتبر أن الإيمان والحب الإلهي يمكن أن ينجي الإنسان من القلق. فالإيمان المطلق هو "الشيء الوحيد الذي يمكن الإنسان من التغلب على عدم معقولية الحياة، ويعطينا القدرة في السيطرة على القلق واليأس والوحدة في هذا العالم الغريب"، وهذه هي حال مارتن وزوجته في نهاية الفيلم حيث إنهما قررا الإيمان بعلاقتهما الزوجية ومحاولة إعطاء فرصة ثانية لحبهما. وهنا لا بد من التذكير بأن فعل الإيمان أيضًا حالة فردية يختبرها ويعيشها الإنسان، والخلاص الإيماني الفردي نابع من فلسفة وجودية.
نظرية غير علمية
تجدر الإشارة إلى أن نظرية العالم النفسي والكاتب النرويجي فين سكوردرود، المولود عام 1956، والمتعلقة بأن الإنسان يولد وفي دمه نسبة مئوية من الكحول هي نظرية غير صحيحة ومن نتاج الخيال. وكان سكوردرود قد كتبها كمقدمة لكتاب يتحدث عن الآثار النفسية لشرب النبيذ من تأليف إدموندو دي أميسيس.
نظرية العالم النفسي والكاتب النرويجي فين سكوردرود، المولود عام 1956، والمتعلقة بأن الإنسان يولد وفي دمه نسبة مئوية من الكحول هي نظرية غير صحيحة ومن نتاج الخيال
ولا يزال سوء فهم ما كتبه سكوردرود يلاحقه منذ أكثر من عشرين عامًا. يشير سكوردرود في تعليقه على ما ينسب إليه من أقاويل مغلوطة "أنا طبيب أعمل مع أشخاص يعانون من مشاكل كحولية كبيرة وألتقي بعائلاتهم يوميًا، ولذلك يصبح من الخطأ جعلي نبيًا داعيًا للكحول". وعلى الرغم من أنه كان قلقًا بشأن سمعته كبروفسور أكاديمي وصاحب تاريخ مهني، إلا أنه منح توماس فينتربيرغ مباركته لصنع الفيلم. وبعد مشاهدته للفيلم قال سكوردرود "إنه فيلم رائع، يتضمن جهود تمثيلية كبيرة قام بها الممثلون، وأنا فخور بكوني جزءًا من عملية إنتاج الفيلم".
وبذلك لا يطرح الفيلم مسألة تطبيق نظرية علمية، فليس المقصود برهان صحة النظرية، على الرغم من النقد الذي يمكن أن يطال الفيلم من قبل كثيرين قد يعتبرونه يحفز ويشجع على تناول الكحول، إلا أن فينتربيرغ وضع النظرية كوعاء فني خيالي لحث شخصياته على السعي لكسر روتينهم اليومي، وإعادة اكتشاف الحياة من جديد، كون الحياة لا تكتشف إلا بالتجربة.
ومن هنا نجد بأن الفيلم لا يطرح لنا خلاصات حيال النظرية "العلمية" المنسوبة لسكوردرود ومصيرها في نهاية الفيلم، فالتجربة العلمية التي قادها الأساتذة الأربعة ليست الهدف بذاتها، بمقدار ما كان الهدف من ورائها عملية الاكتشاف وتذوق طعم المسار، وأهمية البحث عن معنى للحياة وإيجاد الإلهام الخاص بكل إنسان. لذلك فإن فينتربيرغ لكأنه يقول لنا عبر حكايته وشخصياته: الغاية ليست الأهم، الوسيلة هي الأهم، والحياة ليست المهمة، بل كيفية عيش هذه الحياة هو الأكثر أهمية.