في أول فيلم روائي طويل لكاتب السيناريو الفرنسي إيتان كومار، والذي يروي أحداثًا دقيقة ومظلمة في سيرة حياة الموسيقي البلجيكي الغجري جانغو راينهارات تصطف فيها نقائض الحرب والمقاومة إلى جانب بعضها البعض. أراد من خلالها إيتان كومار أن يسلك طريقًا وعرًا في الخوض بسرد حكاية الموسيقي الغجري راينهارت في فترة الاحتلال النازي في باريس عام 1943، وما رافق تلك الفترة من قمعٍ واضطهاد، والذي تلونت به حياة هذا الموسيقي ومسيرته.
ضربات أصابع الموسيقي الغجرية المحببة والمشهورة لا تؤسس للتسلية فقط، بل تقدم موسيقى تصور طريقة حياة الغجري وتعامله مع نفسه
تخلق كلمة "غجري" وبجانبها كلمة "نازي" رؤيةً عما سنراه في فيلم Django، فنتوقع من تعبيرين متناقضين محتوى عنيفًا وإشكاليًا، ففي الوقت الذي كانت فيه الهوية العرقية والأثنية قاتلة والمقاومة صعبة ومهلكة وضع إيتان كومار بطله الفني أمام واحدة من أنواع تلك المقاومة المحفوفة بالمخاطر فبدت كحملٍ ثقيل يحمله ذلك الموسيقي بعلاقته مع نفسه ومع موسيقاه.
هذا الشغف الذي وُظفه فيلم Django كنقطة تقارب تبدأ من عندها معاني عدم الانصياع والفرادة في قول لا في وجه المستغل، كما وجعلت من جانغو مرتدًا عاصيًا بالنسبة للاحتلال النازي. وثمن ذلك كان رحلة الهروب والبحث عن الأمان، تلك كانت من أسوأ ما تخيله الموسيقي الذي لم يعد كذلك مشهورًا وتضج بموسيقاه ليالي باريس، بل تحول إلى مختبئ ينتظر وعائلته عبور الحدود في جغرافية مكبلة بالجنود النازيين الذين كانوا يعدمون الغجر دون محاكمة.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Get Out".. أن تكون مدعوًا لا يعني أنه مرحب بك
الموسيقى خلال الحرب لا تبدو بالشيء العابر مرور الكرام، فالناس تعطي رأيًا موسيقيًا بمجرد تجمهرها. أما عن الرأي الآخر بها فهو ما خلق تناقضات واضحة خلال سرده للسيرة الذاتية للموسيقى، فجانكو الذي لم يكن ليخوض في مناقشات سياسية ولا يتعاطف مع النازي الذي يقف على النقيض من أجواء الجاز والسوينغ، إلاّ أن الأخير هنا يبدو مرتاحًا معها وأكثر استرخاءً مما أراد له المخرج أن يكون، وعندما تتطور تلك العلاقة المتناقضة بين النازي والموسيقي الغجري حتى يبدأ التعنيف والإجبار على كسر الهوية الأصلية للشكل الموسيقي.
هذا الشكل الموسيقي المنفلت لا يعجب الآريين، فبعد أن عزف جانغو راينهارت أمام ضباط في الجيش الألماني في باريس بكل حرية في أحد المسارح الليلية، راحوا يتفقون معه على جولة موسيقية في ألمانيا النازية، ولكنه يرفض متذرعًا بعطلٍ أصاب يديه فلم يعد قادرًا على العزف الأمر الذي يغضبهم ويثير نقمتهم عليه أكثر، على الرغم من القبول البسيط الذي كان يحظى به بالنسبة لهم، كموسيقي يبهج الناس دون النظر لأصله.
وهذا وقد حمل جانغو راينهارت حرقًا في يده اليسرى بسبب اندلاع النيران في المقصورة المتنقلة التي كان يعيش فيها مع زوجته. أصيب يومها بحروق بالغة أدت إلى خسارة إصبعين ولكنه استمر من خلال الجاز الحر الذي يغرق تمامًا بمفردات الحياة البسيطة للغجر.
هذا النوع من الموسيقى الذي جاء لخلق مساحة كبيرة للتعبير عن شخصية جانغو التي وكأنها تنمو بين أوتار الغيتار وتهتز على وقع الصوت، فضربات أصابع الموسيقي المحبب والمشهور لا تؤسس للتسلية فقط، بل تقدم نوعًا موسيقيًا من الجاز والبلوز فيها تصور عميق عن طريقة حياة الغجري وتعامله مع نفسه والقوى المحيطة به.
كما وأنها تدخل بمدى تأثير قوة الاحتلال على حياة الناس البسطاء، هؤلاء اللذين يحبون الحياة فقط، لا خلفيات ولا معتقدات لديهم سوى المقاومة المستمرة، رفضوا الانصياع والخوض فتغيرت حياتهم وتغيرت معها الأرض التي يقفون عليها، بالرغم من كونهم لا يأبهون بالترحال والتنقل. إلاّ أن لهذا التشرد وقعًا أخر من الوقوف ضد محو الأصالة ومع الارتباط بالموروث، لأناس يحاربهم النازي وتحميهم الموسيقى كشكل ما عن التعبير الصريح عن الشخصية والطباع الغجرية.
كان العرض الأول للفيلم Django قبل أشهر في افتتاح مهرجان برلين السينمائي، وقد حظي بترحاب كبير باعتباره وثيقة لمقاومة فنية يجب أن يسمع صوتها، وكأول إخراج روائي للكاتب إيتان كومار، بعد كتابته للفيلم الفرنسي المشبع بالعواطف والحب My king 2015.
هذا الحب الذي لم يخل منه ولا للحظة فيلم جانغو، رغم الحضور الثقيل للحرب وعدم المراهنة ومحاولة إنقاذ النفس والاستمرار، والذي شكل هاجسًا يتحرك ضمنه الجميع، جانغو ورفاقه الموسيقين ووالدته العجوز وحتى الزوجة التي كان وجودها ثانويًا يعطي حياة جانغو عثرات أكثر، أمام حضور العشيقة لويز التي تعمل بالخفاء مع المقاومة الفرنسية بينما تحابي الجنود الألمان، حيث جاءت لتغطي نقصًا عاطفيًا أو شرخًا غائرًا في حياة هذا الموسيقي المنفلت من كل تقليد وقيد، يعبر معها عن نفسه بكل حرية وانطلاقة، رغم تخوفه وحرصه منها، إلاّ أن لوجودها ضرورة. فهي تسرب له رسائل وتحذيرات وما يريده النازي منه، وتلهي عنه الضباط والعسكر كخلفية آمنة أو حياة سريّة له وللمقاومة.
اقرأ/ي أيضًا: إعادة نظر: Les Petits Chats.. الحنين لماضٍ ليس لنا
الممثل الفرنسي رضا كاتبي الذي شارك لأول مرة في حياته كممثل مع المخرج الفرنسي جاك أوديار في فيلمه الأشهر النبي 2009، حيث كان أمام أول جائزة له وأول مشاركة فريدة في مهرجان كان، استطاع أن يكون في فيلم جانغو رجلًا مولعًا بالموسيقى محبطًا مما يجبر على القيام بفعله، قبل نهاية الفيلم وخلال هروبه من القوات النازية التي ما زالت مصرة على اللحاق به بعد إحراق المخيم الذي كانوا يقيمون فيه، وتشريدهم.
كما وأن جانغو أكثر الغجريين خطورة بالنسبة لغيره من أبناء جلدته، كموسيقي أصيل ينتقل من "جاز مانوش" أو جاز الرحالة كما عُرف على تسمية هذا النوع الغجري من الجاز الذي لم يعجب أذواق الضباط.
الممثل الفرنسي رضا كاتبي مع فيلم Django كان أمام أول جائزة له وأول مشاركة فريدة في مهرجان كان
خلال محاولتهم الأخيرة بالهرب يضطر جانغو أن يحفر حفرة في الثلج يختبئ بها ريثما يمر الجنود والكلاب وعندما لم يجد أداة تساعده قام بالحفر بغتياره الذي انكسر وانفصل جسمه عن زنده. هناك على الحدود السويسرية كان آخر ظهور للغيتار الغجري وآخر محطة لجانغو الموسيقي الهارب.
ثم نعود ونراه في أخر مشهد من الفيلم ولكن كسرًا في القلب يبدو أعمق وأقسى من تاريخٍ نضالي لموسيقى الجاز المبهجة، حيث يقود مجموعة من العازفين والمغنين يصدح من خلفهم صوت الأورغن الكنسي، حيث لا مكان لصوت الغيتار وانبعاث موسيقاه المفرحة بين الجموع.
اقرأ/ي أيضًا:
لماذا ننتظر فيلم "Dunkirk" بكل هذا الشغف؟
مهرجان "كان" السينمائي.. لن يعبر أحد عن هذه الدورة مثل كلاوديا كاردينالي