تُورد إميلي نوثومب في روايتها "بيوغرافيا الجوع" جملة تُعرّف فيها الجوع بقولها: "فالجوع يعني في نظري تلك الحاجة الفظيعة التي تمسّ الكائن كلّه، ذاك الفراغ الآسر، وذلك التوق لا إلى الامتلاء الطوباوي بل إلى تلك الحقيقة البسيطة: فحيثُ لا يوجد شيء، أتطلع لأن يكون ثمة شيء".
تذكّرتُ العبارة السابقة أثناء مشاهدتي فيلم "Hunger" (أو جوع ونجاح كما هي ترجمته العربية على نتفليكس)، وأحسستُ أنني أمام نوع من الأفلام التي تأتي لتناقش مسألة الجوع لا كشعور إنساني متعلّق بالطعام فقط، بل كفلسفة عامة، وكشعور طاغٍ يُصيب الإنسان مع كلّ فراغ يشعر به داخله، وتساوره رغبة عارمة في إشباعه وملئه.
يُقدّم الفيلم نموذجًا للجوع الإنساني الذي أفرزته حياة الاستهلاك، والذي ينشأ داخل الإنسان نتيجة نزعة استهلاكية لا نهائية تتولّد داخله مرارًا وتكرارًا
يروي الفيلم حكاية الطاهية الشابة "آوي" التي كانت تعمل في مطعم بسيط وشعبي في الحي الفقير الذي تسكنه، قبل أن يراها أحد العاملين في مطعم فاخر يُدعى "جوع"، ويستقطبها للعمل في مجموعة الطاهي والشيف المحترف بول، المتخصّص في تقديم الطعام للأثرياء وأصحاب النفوذ.
يُسلّط الفيلم الضوء على ذلك الجوع الكامن داخل آوي للنجاح والتفوّق في مهنة طهي الطعام، ويوضّح ظروف الضغط التي تبدأ بالتعرّض لها أثناء عملها تحت إمرة الطاهي بول المتسلّط، الذي ليس لديه مكان للرحمة، والذي لا يعنيه أي شيء في هذه الحياة سوى تقديم أطباقه بأقصى ما يستطيع من الجودة والإتقان.
ويوضّح الفيلم الطريق الذي تسلكه آوي حتى تستطيع التفوّق على معلّمها بول، حيثُ تَلفِتُ مهارتها في الطهي إعجاب أحد المستثمرين، فيدفع بها نحو العمل لديه، ويقوم بافتتاح مطعم خاص بها، وهنا يبدأ الفيلم بتصوير تلك الصراعات التي تقوم بين بول وآوي في سبيل إثبات كلٍّ منهما لجدارته وتفوقّه على الآخر في الطهي.
وفي أحد مشاهد الفيلم، ثمة حوار لافت يجري بين آوي وبول حول الطهي وعلاقته بالحب، حيثُ توجّه آوي لبول سؤالًا عن سرّ اختياره لمهنة الطهي، فيوضح لها أنه قرّر أن يُصبح طاهيًا في اليوم الذي تذوّق فيه كافيار الأغنياء، في بيتٍ كانت أمه تعمل فيه خادمة. يُخبرها أنه لم يفهم يوم تذوقه كيف يفضِّل الأغنياء شيئًا برداءة طعم الكافيار، ثم يقول لها بأنه توصّل إلى نتيجة أن ما يأكله المرء يُعبّر عن وضعه الاجتماعي ولا علاقة له الحب.
يَحمل الفيلم في طياته إشارات واضحة حول حياة الاستهلاك السائلة التي تغلب على المجتمعات المعاصرة، وخصوصًا على طبقة الأغنياء الذين يلجأون إلى الحفلات الصاخبة كشكل من أشكال الاستعراض وحبّ الظهور. فالطعام عند هؤلاء يخرج من تعريفه كحاجة أساسية ويتحوّل إلى طقس استعراضي تُقام له حفلات باذخة، ويُستقدم من أجله أمهر الطهاة الذين قد تساوي أجورهم عشرات الآلاف، لا لشيءٍ سوى لملء فراغهم الوجودي، وإثبات أنّهم يمتلكون قدرة الإنفاق بلا حدود.
يُقدّم فيلم "Hunger" في مجمله نموذجًا للجوع الإنساني الذي أفرزته حياة الاستهلاك السائلة، وهو ذلك الجوع الذي يُمكن استلهام ملامحه من كتاب زيغمونت باومان "الحياة السائلة"، ويُمكن القول إنه ينشأ داخل الإنسان نتيجة نزعة استهلاكية لا نهائية تتولّد داخله مرارًا وتكرارًا، وهي نزعة غير قابلة للإشباع لأنها لا تتعلّق بإشباع الرغبات، بل بإثارة الرغبة في رغبات أخرى، وخصوصًا تلكَ الرغبات التي لا يُمكن إشباعها. فهذه النزعة الاستهلاكية – بحسب باومان – هي نزعة تجعل المستهلك يرى بأنّ "ارتواء الرغبة أشبه بزهرة استمتع بجمالها حتى ذبلت أو زجاجة بلاستيكية تلذذ بما فيها حتى فرغت".
يَحمل الفيلم في طياته إشارات واضحة حول حياة الاستهلاك السائلة التي تغلب على المجتمعات المعاصرة
وبإسقاط حديث باومان السابق على أحداث الفيلم، يتبيّن بأنّ هذا النمط من الجوع الإنساني الذي يَظهر داخل الإنسان ويُولِّد داخله رغبة ونزعة استهلاكية لانهائية غير قابلة للإشباع، هو جوع مثّله بول وآوي في تطلّعهم الدائم نحو الشهرة وحبّ الظهور، وفي سعيهما الحثيث واللانهائي نحو التقدّم والنجاح ونيل الألقاب في مهنة الطهي حتى لو كان ذلك على حساب حبّهما وشغفهما بالمهنة أساسًا. كما مثّله الأغنياء الذين يقيمون حفلات الطعام لا لإشباع حاجتهم إليه، بل لإثارة رغباتهم في معاينة المزيد والمزيد من أشكاله وأصنافه في كلّ حفلة جديدة يقيمونها.
تُبيّن الأحداث النهائية للفيلم بأنّ آوي تكتشف في النهاية مدى زيف الحياة التي صارت تعيشها في مطعمها الفاخر، الذي تطهو فيه لزبائنها الأغنياء، وتختار العودة للعمل في المطعم الشعبي الذي بدأت منه من أجل طهيْ الطبق البسيط الذي يُدعى "شعيرية التذمّر"، وهو طبق ورثته عن عائلتها، وتمّ ابتداعه من خليط من عدة أشياء بسيطة متواجدة في المنزل، تمامًا كما لو أن الفيلم ينتصر في نهايته للأطباق البسيطة المصنوعة بكلّ الحبّ، وللحياة الحقيقية المليئة به.