"The Two Popes" (الباباوان) هو أحد أفلام المخرج البرازيلي فرناندو ميريليس، الذي اشتُهر بفيلمي "City of God" الذي رُشِّح لجائزة الأوسكار سنة 2002، و"The Constant Gardener" الذي رُشِّح بدوره لجائزة الغولدن غلوب لعام 2005. والفيلم من إنتاج نتفليكس 2019، وبطولة مجموعة من الممثلين البارعين والأسماء الكبيرة. وهو مقتبس من مسرحية تحمل العنوان نفسه للكاتب الأمريكي أنتوني ماكارتن التي تدور أحداثها حول فضيحة تهز الفاتيكان.
يلعب دور البطولة في الفيلم الممثل الكبير أنتوني هوبكنز، الذي قدّم أداءً عبقريًا ساحرًا في تجسيده لشخصية البابا بندكت السادس عشر، الذي تذكّرنا حركاته وانحناء ظهره برواية "أحدب نوتردام" للفرنسي فيكتور هوغو. والذي فاجئ العالم الكاثوليكي بإعلان استقالته عام 2013، ليُصبح أول بابا للكنيسة الكاثوليكية يستقبل من منصبه قبل وفاته منذ 600 عام. وقد انتُخب الكردينال الأرجنتيني خورخي برغوليو الذي اختار لنفسه اسم "البابا فرانسيس" – الذي يجسّد شخصيته في الفيلم جوناثان برايس – خلفًا له.
يركّز الفيلم على حياة الباباوين بندكت السادس عشر وفرنسيس وما مرّا به من تجارب أثّرت على حياتهما الشخصية وقناعاتهما الدينية
يبدأ الفيلم بمشهد طريف وغير متوقع ينسف أي اعتقاد مسبق بأن الباباوان هما عجوزان مملان يتحدثان عن الكنسية وتاريخها والقضايا الحساسة المتعلقة بالدين والتديّن والحريات. ويركّز الفيلم على هاتين الشخصيتين تركيزًا كاملًا، فيعود في البداية إلى حياة خورخي برغوليو الذي كان حائرًا بين قرارين هما دخول الأبرشية، أو الزواج من حبيبته.
لكنه في أخر لحظة، وهو في طريقه لطلب يد حبيبته، دخل إلى الكنيسة وخرج منها بعد أن اعترف بخطاياه، ثم اتجه بعد ذلك إلى طريق الرب حسب اعتقاده. لكن هذا الطريق غامض وصعب لا يُشعر من يسلكه بالاطمئنان، على العكس تمامًا مما هو شائع لدى معظم الناس الذين يعتقدون أن علاقة البابا مع الرب واضحة ومريحة وسهلة.
يصوِّر الفيلم حياة برغوليو المتقلبة المليئة بالأحداث المثيرة، خاصةً خلال فترة الحكم الديكتاتوري للأرجنتين التي ارتكب فيها الكثير من الخطايا برفقة أصدقائه الذين رُفعت عنهم الحصانة وقُتل بعضهم. هذه الخطايا جعلته يبتعد عن المراكز والمناصب التي كانت ممنوحة له من قبل الأسقف، وقد تم طرده بعد تبدّل النظام في الأرجنتين، ما جعله يخوض دربًا طويلًا من الإصلاح النفسي والاستماع إلى الآخرين أكثر من الخوض والمشاركة، الأمر الذي غيّر أفكاره عن الدين والحياة وحتى الاعترافات تغيّر مفهومها داخله. فالاعتراف يطهِّر نفس المخطئ، لكنه لا يُساعد الضحية. أي أن الخطيئة جُرح وليست لطخة يجب أن تُشفى وتتعالج، وأن المسامحة التي تقدّمها الكنيسة وحدها لا تكفي. وهو ما جعله مناسبًا لمنصبه الجديد.
في المقابل، يعترف البابا بندكت بأنه أخطأ عندما كان صغيرًا، وأنه لم يكن يملك ما يكفي من الشجاعة لتذوق الحياة. وعوضًا عن ذلك، اختبأ في الكتب والدراسة، وهو ما جعله فارغًا وخاليًا من العلم الذي يجب أن تقوم الكنيسة بمساعدته لا محاربته.
التناقض بين الشخصيتين واضح سواء في سلوكهما أو في تصرفاتهما النابعة من أساس التجربة وحدها، أو الأحكام المفروضة من قبل الدين وقد كرّس الباباوان كل طاقتهما لتسليط الضوء على الفرق بين المصالحة والتغيير لتجميل مؤسسة الدين الكاثوليكي الذي أُثبتت أخطائها وجرائمها. ويشير الفيلم هنا إلى أن مساعي البابا فرانسيس لمواكبة العصر، حتى في قضايا مثل الطلاق والإجهاض والمثلية الجنسية، هي دليل على التغيير. وإلى أن اعتراف المرء بأخطائه، ونقده الذاتي لنفسه، وحتى قدرته على السخرية منها، من أعظم الفضائل.
وتبدو المشاهد التي يكشف فيها الباباوان عبر الاعترافات أخطاء الكنيسة وماضي البابا فرانسيس، مصممة لجعله يتقبّل فكرة أنه تغيّر أكثر من كونه مجرد اعتراف. ويرافق هذا المشهد عدة مشاهد أخرى يشرب فيها الباباوان الفانتا، ويأكلان البيتزا، ويشاهدان مباراة كرة قدم، ويعلّمان بعضهما التانغو في الغرفة الخلفية لكنيسة سيستين. وبالإضافة إلى ما سبق، يطرح الفيلم فكرة مركزية في سياق الحكاية التي يقدّمها، وهي: إذا لم يكن هناك من يلوم، فإن الجميع مذنب.
نجح الفيلم في جعل المشاهد الطويلة والحوارية مشاهد ممتازة من خلال قوة السرد، وطرح الأسئلة التي تتعلق بالإيمان خاصة وبالتدين عامة، ناهيك عن السهولة التي يجب أن تمتاز بها الكنيسة بدلًا من التعقيد لناحية حل المسائل المتعلقة بحياة الآخرين وتسهيل معضلاتهم التي يواجهونها. وينتهي الفيلم بمشاهد طريفة لأكبر حدث رياضي في العالم، وهو نهائي كأس العالم بين ألمانيا البلد الأم لبندكت، والأرجنتين بلد خورخي برغوليو.
يتميّز الفيلم بالحوارت الطويلة وما تنطوي عليه من أسئلة حول الإيمان والتديّن وما يرتبط بهما
وفي مقابلة تلفزيونية، يُسأل أنتوني هوبكنز حول الإيمان وكيف يمكن أن يجسّد شخصية تمثّل الدين وهو غير مؤمن، فيُجيب: "لدي شكوك كل ما أعرفه هو أن هناك لغزًا أكبر في حياتي ولا يمكنني حتى أن أفهمه. لا أعلم من أنا، ولا من أين أتيت، ولا إلى أين سأذهب، وليس لدي أي فكرة حول من خلقني. قد يكون والدي، أو والدتي، أو جدي. ولكن في الحقيقة لا أعرف مما أتكون. ليست لدي أدنى فكرة، لكنني أعتقد بوجود أمر عجائبي خلف ذلك".
وأضاف: "كل هذه السنين؛ أنا في الثانية والثمانين وقلبي لا يزال ينبض، وعلى حد علمي فإن جسدي يعمل، وأشعر أنني عاقل إلى حد ما ولكن ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئًا، والآن أنا جاهل تمامًا، لأنني بلغت عمري هذا لأدرك أن معرفتي لا معنى لها، وأن أحب نفسي فأنا لا شيء، وأننا لسنا مميزين. بمجرد أن تبدأ الاعتقاد بأن نهايتك ذات طابع فريد، التميز المطلق، إذن إن حياتك ليست جديرة بأن تعيشها لأننا لسنا مميزين. نحن مجرد رماد في النهاية. هذا هو خوفي العظيم. لأقتبس ت. س. إليوت: "لقد رأيت وميض لحظة عظمتي/ وقد رأيت الموت يحمل معطفي وحذائي/ وباختصار، كنت خائفًا". أو عمر الخيام الذي قال: "كان هناك باب/ لم أجد له مفتاح/ وكان هناك حجاب لم أستطع أن أرى من خلاله/ بعض الأقزام تحدثوا لحظة عني وعنك/ ثم لم يعد لنا وجود/ لا أنا ولا أنت".