تشبع الغريزة فتصير القراءة أولًا والحب ثانيًا، فالفعل الغريزي يتطلب وجود شخصين حتى يتحقق، كذلك هو الفعل المعرفي فالقراءة تتطلب متلقيًا ومرسلًا حتى يكتمل الفعل الإبداعي. الكتاب عبارة عن أفكار صامتة لا تتجسد، بحسب رولان بارت، إلا بوجود قارئ يفعّل ما هو مضمر بين الأسطر.
الكتاب عبارة عن أفكار صامتة لا تتجسد، بحسب رولان بارت، إلا بوجود قارئ يفعّل ما هو مضمر بين الأسطر
كيف يمكننا فهم العلاقة بين الفعل الإبداعي بوصفه إنتاجًا عقليًّا والغريزة بوصفها فعلًا جسديًا؟
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Wonder".. الوعي الطفولي في مواجهة الاختلاف
طرح فيلم "القارئ" (The Reader)، الذي أنتج سنة 2009 للمخرج ستيفان دالدري، هذا التساؤل عبر العلاقة التي جمعت بين المرأة الثلاثينية هانا شميتز والصبي ذي السادسة عشرة مايكل بيرغ.
انطلقت أحداث الفيلم بطريقة الفلاش باك. صوت القطار كان العامل المحفّز للعودة بذاكرة مايكل إلى سنة 1958 في يوم ماطر، وعندما كان يركب القطار عائدًا إلى بيت والديه تعرض إلى وعكة صحية أجبرته على دخول أحد الازقة حيث التقى بامرأة ثلاثينية ساعدته على الوصول إلى منزله، بعد أشهر من تماثله للشفاء ولأجل رد الجميل إلى هانا، قرّر مايكل زيارتها وشكرها، ومن خلال هذه الزيارة اكتشف مايكل لأول مرة تفاصيل عن جسد هانا بعدما استرق النظر إليها.
تتالت الزيارات وتطورت العلاقة بين هانا والصبي، كما كانت تناديه طوال الفيلم، فتحولت إلى علاقة حميمية جسدية كانت فيها هانا هي المسيطر على الفعل الجنسي أين لعبت دور المعلم. لم يكن عدم التكافؤ العمري أو الاجتماعي حائلًا لتواصل هذه العلاقة، ومع طباع هانا الحادة ومزاجيتها تغيرت العلاقة بينهما إذ اشترطت أن تكون هناك قواعد للعلاقة الجنسية، فلم تعد تمكّنه من الفعل الجنسي إلا بعد أن يقرأ لها، فتصبح العلاقة علاقة شرطية بين البطلين؛ القراءة مقابل الجنس.
في بادئ الأمر، لن يتمكن المشاهد من فهم سبب هذا الطلب الغريب، لكن بعد سنوات من اختفاء هانا شميتز المفاجئ، والتحاق مايكل بكلية الحقوق سنة 1966، وفي إحدى زياراته الميدانية لإحدى المحاكم يلتقي مايكل بهانا مرة أخرى وينكشف له السر الذي أخفته عنه: أنها أمية لا تجيد الكتابة ولا القراءة. خلال محاكمتها هي وخمس نساء أُخريات بقتل ثلاثمئة امرأة وإحراقهن داخل كنيسة رفضت هانا الإفصاح عن سرها وقبلت الحكم المؤبد، فقط من أجل ألا تكشف عن جرحها النرجسي.
وحتى يكفّر عن ذنب إخفائه دليل البراءة عن العدالة، وذلك فقط من باب احترام رغبة هانا في مواصلة كتمانها لسرّها، قرّر مايكل أن يساعدها عبر تسجيل الروايات التي كان يقرأها لها عندما كان صبيًا: "الأوديسة" و"السيدة مع الكلب الصغير". الأمر يشبه ما قاله شوبنهاور عن كون القراءة طريقةً ثانية للتفكير بعقل شخص آخر.
تطبيق الأوامر العسكرية بدون أي رد ليس دائمًا أمرًا صائبًا، بل كثيرًا ما يقود الإنسان إلى التخلي عن إنسانيته
لم تكتف هانا بالاستماع فقط لتسجيلات مايكل، بل بدأت في تعلم الكتابة عبر التقاطها للكلمات وحفظها ذاتيًا فما الإنسان إلا صفحة بيضاء تتم تعبئتها نتيجة للخبرة اليومية التي يكتسبها. هانا فهي في الحقيقة صفحة بيضاء استطاع مايكل أن ينقش عليها، ولو بطريقة غير مباشرة، عبر التسجيلات التي يرسلها.
اقرأ/ي أيضًا: الفيلم السوداني "حديث عن الأشجار" يمنح العرب جائزة مهرجان برلين
نهاية الفيلم كانت رمزية، فانتحارها في الحقيقة ما هو إلا طريقة لرد اعتبار للشعب الألماني لما عاشه من تصفيات في فترة الحكم النازي. فمع ازدياد نسبة الوعي لدى هانا استطاعت أن تفهم أن تطبيق الأوامر العسكرية ليس دائمًا أمرًا صائبًا، فأحيانًا يكون الإنسان مجبرًا على اتخاذ قرارات يرجّح فيها الفعل الإنساني على الأوامر العسكرية، وإثر وعيها لهذا الأمر وفهمها فظاعة ما ارتكبت، قررت أن تنهي حياتها مستعينة بالكتب التي رفعتها جسديًا فوقفت فوقها لتنتحر، وفكريًا لتكفر عن خطيئتها.
اقرأ/ي أيضًا: