قد يكون فيلم "Sobibor" للمخرج الروسيّ قسطنطين خابينسكي/Konstantin Khabenskiy مجرّد شريطٍ سينمائي يُضاف إلى الكثير من الشرائط التي تناولت موضوع الهولوكوست وإبادة اليهود، الذين لم يتعرضوا للإبادة وحدهم حصريًا للمناسبة، في الحرب العالمية الثانية على يد الجيش النازي. وقد لا يبدو أيضًا، بالنسبة لعددٍ كبير من المشاهدين، أكثر من مجرّد شريطٍ الغرض منه إعادة تحريك هذه القضية وإثارتها بهدف إبقاء حضورها قيد التداول. لاسيما وأنّ الإبادة بعينها لم تعد اليوم قضية بقدر ما هي أداة سياسية بحتة.
لم تعد الإبادة التي تعرض لها اليهود، كما غيرهم في الحرب الكونية الثانية، قضية بقدر ما هي أداة سياسية بحتة
فالشريط، لا يُقدّم جديدًا يُذكر، إن كان ذلك لجهة مضمون الحكاية، أو الطريقة التي سُردت من خلالها أيضًا. ذلك أنّه لا يخرج عن دائرة استعراض أهوال الحياة اليومية لليهود في تلك الحقبة. والمتلقّي يعرف جيدًا أنّ الفيلم لا يبتعد عن معسكرات الاعتقال والإذلال والعنف الذي تعرّض له اليهود في القارّة العجوز على يد النازيين مقدار خطوةٍ واحدة. بل يراوح في المكان نفسه تقريبًا، مع جهدٍ بسيطٍ وملحوظٍ في منح الشريط مفارقة تُميّزه عمّا سبقه قبلًا. وتتجلّى هذه المفارقة في إعادة إنتاج العنف وتحويله من عنفٍ ممنهج أقرب إلى التعذيب الذي يطال الجسد، إلى آخر مبنيٌ على الذل والإرهاق النفسي الحاد الذي يجعل من الموت أمنيةً وأمرًا مرعبًا في آن معًا بالنسبة إلى المعتقلين داخل المعسكر النازيّ. وبالتالي، يسعى هذا العنف الذي يُمارسه الجنود الألمان بطريقةٍ دقيقة ومدروسة، إلى بثّ الخراب النفسي داخل المعتقلين، وتدمير ثقتهم بأنفسهم أيضًا، وتأكيد أمر دونيتهم عمّن سواهم من البشر.
اقرأ/ي أيضًا: الرايخ الرابع في تل أبيب.. حرب إسرائيل "النازية" على جيرمي كوربن
يبدأ هذا العنف بعد دقائق قليلة من بداية الشريط، حيث يُقاد عددًا من النساء العاريات بشكلٍ كامل إلى أمكنة يُوهِمُ الجنود الألمان النساء بأنّها مُخصَّصة للاستحمام، غير أنّها في الحقيقة غرف إعدام مُجّهزة بأنابيب غازاتٍ سامّة. ويعود إلى الظهور مجدّدًا في مشاهد مختلفة من الشريط، فنرى في إحداها ضابطٌ ألمانيّ يتسلّى بضرب مؤخّرة رجل يهوديّ بحزامه الجلدي بينما يكتفي الرجل بعدّ الضربات بصوتٍ عالٍ، وإعادة البدء بعدّها من جديد بأمرٍ من الضابط/ الجلّاد نفسه. وما يبعث الألم هنا في نفس هذا الرجل، لا أمر إذلاله أمام جمعٍ من أبناء جلدته وحسب، بل أنّ الحزام الجلدي الذي لا ينفكّ يأكل من جلد مؤخّرته، هو في الأساس من صناعة يهوديّ آخر يُشارك الرجل/ الضحية المعاناة نفسها بكلّ أشكالها داخل المعسكر.
سعى العنف الذي مارسته النازية بطريقةٍ دقيقة ومدروسة، إلى بثّ الخراب النفسي داخل ضحاياه المفعول بهم
أما في مشهدٍ آخر، يُجبِر الضبّاط الألمان مَن يعملون مِن اليهود في صياغة الذهب على صناعة دبابيس ذهبية من أسنان يهود آخرين قضوا حرقًا أو اختناقًا في معسكراتٍ أخرى. وأيضًا، يُجبَر عددًا من اليهود على ممارسة أفعالٍ مُحرّمة في الدين اليهوديّ، ليس أوّلها شرب الخمر، وليس أخرها بطبيعة الحال إجبار الرجال على تقبيل نساءٍ متزوجات بطريقةٍ عنيفة وجنسية بحتة أمام أزواجهنّ. ومن شأن مشهدٍ كهذا أن يُلحق بالمشاركين فيه قدرًا كبيرًا من الأذى النفسي، يفوق ما يُمكن أن تفعله أي طريقة تعذيبٍ أخرى.
[[{"fid":"103014","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"ملصق فيلم Sobibor","field_file_image_title_text[und][0][value]":"ملصق فيلم Sobibor"},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"ملصق فيلم Sobibor","field_file_image_title_text[und][0][value]":"ملصق فيلم Sobibor"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"ملصق فيلم Sobibor","title":"ملصق فيلم Sobibor","height":398,"width":220,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
أمّا المشهد الأبرز والأكثر عنفًا في الشريط، فيقدّم بصورة صادمة مجموعة ضبّاط يصلون إلى المعسكر لإمضاء ليلة لن تُمحى من ذاكرة المعتقلين فيه. حيث يتحوّل الرجال في المعسكر إلى أحصنةٍ تجرّ عربات يعتليها هؤلاء الضبّاط، وتدور حول حلقة من اليهود الآخرين في مسابقة جزاء من يخسر فيها رصاصة واحدة. هكذا تحوّل المعسكر خلال ساعاتٍ قليلة وقليلة جدًا إلى مأساة، يجمعُ منفّذيها لا كره اليهود فقط، إنّما العنف المتأصّل داخلهم، والمستعدّ دائمًا للانقضاض على العالم، وتقديم نفسه بأشكالٍ جديدة.
لا يمكن تكثيف وحصر عنف النازية بكره اليهود فقط، إنّما بالعنف المتأصّل والمستعدّ دائمًا للانقضاض على العالم، وتقديم نفسه بأشكالٍ جديدة
يُقابِل المعتقلين هذا العنف بعنفٍ آخر يتكوّن شيئًا فشيئًا عند بعضهم، قبل أن ينتقل إلى الجميع كنتيجة طبيعية لما لحق بهم من إذلال نفسي وجسدي. هنا، يعود الشريط ليقع لا في فخ التكرار، إنّما في فخ المبالغة وإعادة الترويج لنماذج الأبطال الكلاسيكيين وقدراتهم شبه الخارقة، بعد أن نجح في الجزء الأوّل منه في الموازنة بين القوّة والضعف عند اليهود المعتقلين. فالنهاية التي صوّرت مشهد هروب المعتقلين من المعسكر بعد معركة صغيرة دارت بين الجنود الألمان ومسلّحين يهود، تجاهلت الواقعية لحساب بناء مشهدٍ الهدف منه إثارة مشاعر المشاهد فقط.
اقرأ/ي أيضًا:
"النازية الجديدة" الأمريكية.. إعجاب بداعش وعداء للنساء وولع بالعنف
"مواطنو الرايخ الألماني".. ألمانيون يرفضون الاعتراف بانتهاء ألمانيا النازية