ليس من السهل أبدًا تحويل الرواية المميزة والنافذة "في انتظار البرابرة" (Waiting for the Barbarians) إلى الشاشة الكبيرة، ولكن ماذا لو أن الكاتب نفسه قام بهذه المهمة؟ فبعد حوالي الأربعين عامًا من صدورها، يغامر الكاتب الجنوب إفريقي ج. م. كوتزي في عالم كتابة السينما. في دفة قيادة الفيلم - الملىء بأسماء بارزة من الممثلين – المخرج الكولومبي تشيرو جيرا (Ciro Guerra)، مع مساعدة من السينماتوغرافر كريس مينجيز (Chris Menges) ومصمم الملابس كارلو بوجيولي (Carlo Poggioli) الذين قاما بعمل مميز في تصوير تقشف الحياة، وأيضًا آفاقها، في المستعمرة بشكل جميل وثاقب. ولكن على الرغم من كل ذلك، وبالرغم من قوة العمل السينمائي ككل، فشل الفيلم في مجاراة الكتاب. بكل الأحوال، مقارنات من هذا النوع تكاد تكون دائمًا في صف المكتوب، ليس بسبب قصور السينما في هذا المجال ولكن يُعزى الأمر عادة لأسبقية أحدهما ومحاولة الثاني اللحاق به والعمل بقوانينه.
بالرغم من قوة العمل السينمائي ككل، فشل فيلم "Waiting for the Barbarians" في مجاراة الكتاب الذي أُخذ عنه
تجري أحداث فيلم "Waiting for the Barbarians" في مستعمرة غير محددة تنتمي لإمبراطورية غير محددة في جبهة على أرض غير محددة. حاكم المستعمرة (Mark Rylance) رجل مساكن ويعامل رعيته والسكان الأصليين خارج المستعمرة بسلمية ورفق. لم يجد طوال إقامته هناك أي سبب لتعكير صفو التعايش في المنطقة. إنه حتى يجهد في تعلم لغتهم. لكن الأمور تتغير فجأة مع ظهور الكولونيل جول (Johnny Depp) الذي يصل الجبهة للتحقق من معلومات عن عصيان مقبل من قبل البرابرة - كما يدعوهم – الأمر الذي يهدد المستعمرة وبالتالي الإمبراطورية.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Chaos Walking".. من عمل موعود بمسائل فلسفية إلى فيلم مطاردة
الحاكم لا يقتنع بهذه المعلومات ولكن ليس لديه خيار إلا أن يستقبل الكولونيل ويعطيه كامل الحرية في إجراء تحقيقاته. الفرق بين الرجلين وطباعهم كبير جدًا. تعتري الحاكم المسالم دهشة وهلع كبيرين عند مشاهدته الطريقة التي ينفذ فيها الكولونيل تحقيقاته، حيث يبدأ بأسر اثنين من سكان المنطقة وتعذيبهم حتى إخباره ما يريد سماعه. "الألم هو الحقيقة"، يقول الكولونيل للحاكم المصدوم.
تتفاقم الأوضاع بشكل تدريجي عندما يعود الكولونيل ذات يوم من حملته على الجبهة خارج المستعمرة مصحوبًا بعدد أكبر من الأسرى. ثم تعود الأمور قليلًا إلى حياتها السابقة بعد رحيل الكولونيل، ولو إلى حين ولو مع بعض الندوب التي خلّفها والتي دخلت الشتاء مع سكان المستعمرة. خلال ذلك الوقت تثير امرأة شابة مشردة (Gana Bayarsaikhan) اهتمام الحاكم، الذي يكتشف لاحقًا أنها كانت أيضًا إحدى أسرى الكولونيل.
ثمة كبح وخفوت في الفيلم يحرم المشاهد من اكتشاف أفكار الحاكم، التي هي موسعة في الرواية، خاصة أنه هو الراوي فيها. يظهر في الفيلم كرجل متعاطف ومن دون تناقضات في ما يخص هذا التعاطف ونظرته للأمور. هو يعبر لاحقًا عن اعتراضه على ممارسات الكولونيل ومساعده الضابط ماندل (Robert Pattinson) ويعاقب بسبب ذلك. ما يزعج الكولونيل في البداية هو تعكير صفو حياته السكينة، ولذلك يمكن تبرير وشرح تعاطفه اللاحق - على الرغم من صدقيته - انطلاقًا من هذه النقطة. الشخصيات الأخرى تظهر في الفيلم أحادية الجانب، وأحيانًا كرتونية كشخصية الكولونيل، ولكن ذلك لأننا نرى الأمور من وجهة نظر الحاكم الذي لا يخفي احتقاره للكولونيل وأتباعه.
أجواء الفيلم متقشفة كانعكاس لحياة المستعمرة ولكن أيضًا لعسكرة المنطقة، كما يمكن أن يشهد لذلك التصميم المميز للملابس الموحدة لعسكر المستعمرة وهؤلاء التابعين للكولونيل. وربما أقوى التصميمات هو النظارات الشمسية التي يلبسها الكولونيل في معظم المشاهد لتخفي ما يمكن أن تفضحه عيناه من مشاعر، هذا إن وجدت. الأمر ذاته يمكن قوله عن التصوير الذي وصل ذروته في مشاهد الصحراء خارج المستعمرة.
أجواء الفيلم متقشفة كانعكاس لحياة المستعمرة، وأيضًا لعسكرة المنطقة. ورغم أنه يفتقر إلى حيوية الرواية لكنه يبقى مؤثرًا وثاقبًا
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "The White Tiger".. بين هند الظلام وهند النور
الفيلم يفتقر حيوية الرواية ولكنه يبقى مؤثرًا وثاقبًا. ثمة كبح واضح في أحيان عديدة، خاصة في البداية، ولكن تلك قد تكون رؤية صنّاع الفيلم. يفترق العمل البصري بشكل مقصود عن الكتاب، على سبيل المثال في علاقة الحاكم مع المرأة الشابة، ولكن بصورة أهم في النهاية، حيث تبدو أن العقود الأربعة التي تفصل بين العملين قد أثّرت في رؤية كوتزي؛ هنا الكاتب لديه تصور آخر لقصته السياسية الرمزية.
اقرأ/ي أيضًا: