لو فكّرنا بتاريخ تطوّر الحقوق النسوية عبر العصور، لقلنا إنّ هذا التطوّر ما كان له أن يحدث لولا دخول هذه الحقوق حيّز النقاشات الجدلية، ولولا مرورها بصولات كثيرة من الأخذ والردّ وإعادة التفكير والصياغة، وصولًا إلى بروزها في أكثر أشكالها نضوجًا ومعاصرة.
فيلم "Women Talking" أو "حديث النساء"، هو من تلك النوعية التي تُسلّط الضوء على الحقوق النسوية، وهي ما تزال في مراحلها البدائية الأولى، كأفكار وقضايا تَطرحها النساء فيما بينهنّ ويتحدثنَ عنها نتيجة واقع الاضطهاد الذي يُعايشنه ويرزحنَ تحته.
يبدأ الفيلم بصوت فتاة صغيرة تبدو كأنّها تروي قصة لأقرباء لها وتُنبئهم في عبارتها الأولى بأنّ قصتها قصة قديمة بدأت وانتهت قبل أن يولدوا "القصة تنتهي قبل ولادتكم"، وعبارة الفيلم الأولى رغمَ أنّها عبارة بسيطة إلا أنّها تحمل في طياتها إشارات ودلالات عميقة، وهذه الإشارات والدلالات كلّها تصبّ في عنوان الفيلم وكأنّ الفيلم يريد أن يشي للمتابع منذ بدايته بأنّ أحاديث النساء التي سيشهدها في الفيلم ليست شيئًا تافهًا أو فارغًا، بل هي علامة فارقة وسببًا في حصول تحوّل جذري بين زمنين؛ زمن أشخاص ولدوا قبل حصولها وزمن أشخاص ولدوا فيما بعد.
تأتي قصة المستعمرة والنساء محمّلة بإسقاطات كبرى، وكأنّها قصة النساء في هذا العالم اللواتي لم يكنْ لهنّ أن يَحصلنَ على أي من حقوقهنّ، لولا تلكَ اللحظة التي استشعرنَ فيها واقع الاضطهاد
تجري أحداث الفيلم في مستعمرة مجهولة الاسم في عام 2010، ويرد على لسان الراوية بأنّ القصة بدأت عندما صارت نساء المستعمرة يستيقظنَ وعلى أفخاذهنّ وأجسادهنّ آثار ندوب ودماء، وكأنّ أيادي خفية قد عبثت بهنّ طوال الليل، وتقول الراوية بأنّ شيوخ المستعمرة كانوا يُخبرنَ النساء بأنّ ما يتعرضنَ له أثناء نومهنّ هو من فِعل الأشباح والشياطين.
يوضّح الفيلم بعدها بأنّ الأمر لا يطول بنساء المستعمرة حتى يكتشفنَ أنّ ما يتعرضنَ له من اعتداءات وتحرّش واغتصاب هو من أفعال رجال المستعمرة، حيثُ يقبض بعضهنّ على بعض الرجال متلبسين في وضعية اعتداء على النساء وهنّ فاقدات للوعي بعد أن يقوموا بتخديرهنّ بمهدّئ للأبقار.
تقوم نساء المستعمرة بعد هذا الاكتشاف بإرسال الرجال المعتدين وترحيلهم للشرطة في المدينة، ليتبعهم بعدها كلّ رجال المستعمرة الذين يخططون لدفع الكفالة للرجالة المعتدين وإطلاق سراحهم، وتبقى نساء المستعمرة وحيدات دون رجال، وهنا يُصبح المجال مفتوحًا أمامهنّ للدخول في نقاش جماعي حول الخيارات المطروحة أمامهنّ بعد اكتشاف اعتداءات الرجال عليهنّ.
في البداية تُنظّم النساء في المستعمرة ما يُشبه نظام انتخابات يقمن فيها بالتصويت على ثلاث خيارات مطروحة أمامهنّ: عدم فعل شيء، أو البقاء والقتال، أو مغادرة المستعمرة، وبعد أن تأتي نتيجة التصويت متساوية بين البقاء والقتال أو المغادرة، تدخل نساء المستعمرة في سلسلة نقاشات وجدالات طويلة حول إيجابيات وسلبيات الخيارين.
واللافت في الحوارات التي تدور بين نساء المستعمرة على طول الفيلم أنّها جميعها تُبيّن بأنّ هناك إدراكًا ما استجدّ عند النساء بحقهنّ في العيش في بيئة آمنة بعيدًا عن تسلّط الذكور وعنفهم، ولعلّ واحد من أبرز حوارات الفيلم هو حوار يدور بين النساء حول النظام الجديد الذي يرِدنَ أن يؤسسنه في مستعمرتهنّ الجديدة أيًا كان خيارهنّ وهو نظام يُردنَ فيه أن يتخذّ الرجال والنساء القرار بشكل متشارك، وأن يُسمح فيه للمرأة بالتفكير، وأن يتمّ فيه تعليمها القراءة والكتابة، وأن يُسمَح فيه بعرض خريطة في المدرسة حتى يستطعنَ فِهم مكانتهنّ ومكانة مستعمرتهنّ في العالم.
وبعد جولات حوارية طويلة تُناقش فيها النساء الخياران الاثنان اللذان أمامهنّ بكلّ وضوح وجرأة، وبعد أن تتعالى أصواتهنّ ويدخلنَ في صولات أخذ وردّ لها علاقة بمدى ملائمة الخيارين لعقائدهنّ الدينية، وما تعلمنه من شيوخ المستعمرة من تعاليم دينية بخصوص جنة الآخرة التي قيل لهنّ أنهنّ لن يتمكنَ من دخولها إلا مع الرجال وبرفقتهنّ، تُقرّر النساء القفز على هذه التعاليم لما فيها من قواعد ظالمة لا يُمكن أن تكون من شريعة إله عادل.
تَختار نساء المستعمرة خيار الرحيل، ويصطحبن معهنّ الأولاد دون سنّ الأربعة عشر عامًا، ممن يُمكن العمل على إعادة تأهيل عقولهم لاستيعاب النظام الجديد في المستعمرة الجديدة التي يَأملنَ في إعادة بنائها في مكان جديد وتبعًا لقواعد أخرى.
تأتي قصة المستعمرة والنساء محمّلة بإسقاطات كبرى، وكأنّها قصة النساء في هذا العالم اللواتي لم يكنْ لهنّ أن يَحصلنَ على أي من حقوقهنّ، لولا تلكَ اللحظة التي استشعرنَ فيها واقع الاضطهاد، وبدأن أحاديثهنّ حول خياراتهنّ الكثيرة في المناهضة والمقاومة والرفض.