ذلك الكوخ المهجور على جانب الطريق كان الملجأ الوحيد بعد أن غمرت سيول الأمطار المجنونة عجلات السيارة حتى منتصفها وهبط الظلام سريعًا على الأرض ولم يعد ممكنًا التحرك حتى لأمتار أخرى.
دخلت أنا وترددي وارتباكي وكل حكايات جدتي عن الأشباح العالقة في رأسي الذي يقطر ماءً وتوترًا، كذلك كان السقف يزرب الماء من ثقوبه. اهتديت باللمس إلى صندوق خشبي صغير، جلست عليه أفرغ ما في صدري من لهاث، وإذ بسعلة مفاجئة كادت تسقط قلبي في أسفل قفصي الصدري. جربت أن ألتقط أنفاسي وبعض شجاعتي وأطلقت سؤالًا على دفعات: مـ.. من.. من هنا؟
لم يطل الرد أكثر من سعلتين ونبرة ساخرة: هدئ من روعك يا رجل، اقترب ودعني أتبين وجهك.
بالرغم من صوته الغريب الذي ليس فيه لا رنين ولا حياة إلا أنني شعرت بالاستئناس.. سحبت صندوقي باتجاه مصدر صوته وبمساعدة ولاعة سجائري تعرفت على بعض ملامحه. كان الرجل مبللًا بشكل مأساوي من رأسه حتى قدميه، يبدو أنه ضلّ الطريق أثناء العاصفة فسبقني إلى هنا.. على أية حال كان من حسن حظي وجود شريك في هكذا مساء مشؤوم وموحش.
تجاذبنا أطراف حوار سطحي امتدّ بشكل عفوي إلى حديث ذكريات وحكايات ذات شجون، لم يكن يعكرها سوى ضربات الرعود المفزعة التي تكاد لا تتوقف في الخارج.. روى لي خواطر كثيرة منها قصة القرية وعواصفها المطرية الغريبة التي تتسبب كل عام بفيضان النهر القريب، واختفاء واحد أو أكثر من الأهالي في حوادث غرق غامضة، وكيف أن بعض سكان القرية رؤوا بأعينهم أكثر من مرة أرواح بعض أولئك الغرقى وهي تهيم فجرًا في الدروب والحارات.
شعر بصمتي المشوب بالريبة فسألني إن كنت أعتقد بهذه بالحكايات؛ لكنه اعترض إجابتي مضيفًا أن سكان القرية أناس بسطاء تحركهم الشائعات والقصص الغريبة، بل وتحفز لديهم الخيال وتغدو مع الزمن حدثًا موسميًا مثيرًا ومسليًا لقرية نائية ليس فيها أبسط أسباب الإثارة والتحدي.
مرّ الوقت سريعًا. تحسست طريقي إلى الخارج لأتبين الوضع ولحسن الحظ كانت العاصفة قد هدأت والأمطار توقفت تمامًا. عدت مبتهجًا وأخبرت الرجل أنه صار بإمكاننا المغادرة بأمان، لكنه ظل صامتًا غير مكترث لما أقول، بل أشعل سيجارة فظهر وجهه المبلل، كذلك كان الماء يقطر من معطفه بغزارة محدثًا ذلك الصوت الذي كان يوترني كل الوقت... يبدو أنه كان يجلس تحت أحد ثقوب السقف المهترئ.
قلت له محذرًا: قم تحرّك من هنا يا رجل.. أنت تعتصر ماءً ولن تجفّ أبدًا طالما أنك تجلس هنا..
جحظت عيناه وازداد انهمار الماء من وجهه وجسده وأجابني بصوت مكتوم كأنه قادم من الأعماق: أيها الأبله.. وهل يجفّ الغريق؟
اقرأ/ي أيضًا: