"كعك... كعك" بصوته كان يمتهن استفتاح نهارات الجُمع الكثيرة، الصغار يتسابقون للشراء منه، ويطلبون فوق ذلك زيادة حصصهم من ورق الجرائد المملوءة بالزعتر المالح. واليوم، ما بال اليوم؟ صامتٌ هو بائع الكعك في اللوحة الكبيرة وهي تعج ّبأبواق السيارات ومخالب الجرافات تحفر الأرض تمهيدًا لبناء جديد.
أشجار الصنوبر تقف على استحياءٍ في الشوارع المأزومة، تتشاطر فيما بينها ذلك الذي كان، وقد ملأت الجبل يومًا، تبتسم حينًا وقد تباغتها دمعة أو أكثر، ثم تلوذ بالصمت فرارًا وخوفًا من الحنين إلى سَمر سكان بيوت القرميد الأحمر. كم تبدو شاحبًا وهي تنعكس عليك! ما أبعدك عني وأنت تُعدد سنواتك الخائبات المُوحشات، موغلٌ في الحديث والتفاصيل. أهرب منك أكثر، ثم يا لفرط خيبتي أو حظي أجدني أمامك ... كيف يكون ذلك؟
يدك ممدودة إليك، تظهر أشجار الصنوبر، مرة أخرى، على الشارع الطويل، تتمايل كأشباح في هذه الليلة الغائمة، قد يقطع هذا الصمت الجاثم هدير سيارة تمر بين الفينة والأخرى، وعواء كلبٍ ضال يمر من قريب، لا زلتَ مسترسلًا في حديثك ويدك تمتد أكثر إليك، تمزق اللحم، لحمك، وتُبعد العظام، عظامك، ثم تتوقف مُرتجفة على تخوم قلبك. يدك التي تخضبت بالحبر يومًا وهي تكتب عن الهوى، صارت تنقط دمًا. يا للرعب! يصير العاشقون مجانين وقتلى..."قتلى... قتلى" يُردد الكلب الضّال ويركض باستعار نحوك، ينقض عليك وتتبخر، كحلمٍ مُزعج.
جاء الصبح على خجل هذا اليوم، يسترق النظر علينا من نافذة السماء، مشفقٌ على العيون الساهرة ووشوشات الأسِرّة الدافئة، يعتذر منها، ويتنفس بملء رئتين عطوفتين بالحياة. ثم يحين الوقت، فأتركك حيث أنت مُسّجى بألحان أسطوانتك التي تُحب، مُتمعنًا يديك القاطرتين بالدماء باندهاش تام، فأغسلهما بزادي الشحيح من الرحمة، ثم أطمئن على الوليد الجديد، وأنفث عن أوراقك آلام المخاضات والليالي الطِوال... لا زال أنينك يلاحقني كنذير الموت أتعوذ منه.
أهمّ بالخروج، تتفحصني عيناك المُثقلتان بالضّياع، وببؤس تحاول إغواء عقلي بسطر أغنية، تظن صائبًا أنني أحبها. يسقط أول المطر، يغفر لك -بعد توبتك الخالصة- عقدتك منه... ما أكثر ما شكوتَ له رحيلي الذي كان، صار، السبب! ينغلق الباب بيننا على المشهد قبل الأخير، ويهطل أكثر المطر، أترك إرثي الجاهلي من الهجو والقتال لديك... نعم، رأفة بك، وأغتسل من مفاخر القبيلة في ابتهاجها البدائي وهي تجزُّ أعناق الذبائح.
أمرّ ببائع الكعك الذي في مكانه، وهو يناجي الأمل الواهن بأن يلحظه أحد، وعيون الأحاد تشتهي "الكرواسان،" قد أنفت ما نشأت عليه، وصحن الزعتر المالح لم ينقص منه شيء. يركض العابرون الى أشغالهم بجنون، ككل يوم! ولا شيء مهم يتغير إلا حالة الطقس. وفي مسيري الطويل، قد يعبر جسدي النسيم البارد، يتسرب إلى هوة في داخلي تطلبني، علامة نصرها أن أترك كفي التي شابها شيء من الدم في كفٍ أخرى تراود الشجرة عن تفاحة.
اقرأ/ي أيضًا: