20-يوليو-2018

فيلم الرسالة - النسخة العربية

تمر ذكرى رحيل المخرج السوري مصطفى العقاد في 11 تشرين الثاني/نوفمبر، وهنا نظرة على أثره الخالد وفيلمه "الرسالة" الذي لم يكن سوى "رسالة ملؤها الحب والسلام".


ماذا يفعل الإنسان إذا كانت موهبته، ذاك النداء الداخلي المتواصل الذي لا ينام؟ سيشعر بأنه مولود بالفطرة من أجل أن يستمر في هذا المدار القدريّ، الذي يطير ولا يحطّ، ويظل يجذبه كما الفراشة إلى النور، ساريًا في فضاءات لامرئية، تبدأ من روحه ودمه وخلاياه، فتطارده، أو تبعثر المألوف المحيط، وتشتعل أكثر، ليتألم هو بالإصرار على الكشف، ولتحترق هي بدوام الرحيل عبر الحُجَب، ومن ثمّة لا يبقى سوى الأثر المدهش، تتوراثه الأجيال ويستعيده العائشون تحت ظروف تتكرر بمرور الزمن.

في سيرة مصطفى العقاد ورحلته من حلب إلى هوليوود، أكثر من درس، يمكن للناشئين وشباب السينما العرب، استلهامه

ولو لم يكن مصطفى العقاد (1935 - 2005) قد تأرّق بهذه الموهبة باكرًا، لما غادر وطنه سوريا، بعدما زار أقاربه وأصدقاءه، ليكون معه ما يكفيه من مال، للوصول إلى الولايات المتحدة، ويسدّ متطلبات حياته لأيام معدودة، ثم يواصل رحلته في البقاء، من أجل بلوغ طموحه الذي ظلّ مشتعلاً حتى لحظة استشهاده في فندق "غراند حياة" في العاصمة الأردنية عمّان، متأثرًا بجراحه التي أصيب بها في تفجيرات تبنّاها تنظيم القاعدة.

اقرأ/ي أيضًا: حياة فاتن حمامة كمتحف

في سيرة العقاد ورحلته من حلب إلى هوليوود، أكثر من درس، يمكن للناشئين وشباب السينما العرب، استلهامه، لا للسير على نفس الدرب، لكن لاستبصار الإمكانات المرجأة والفرص التي يمكن لها العثور على حياة بديلة في ظلّ أجواء تختلف كثيرًا عن كآبة وعدمية الواقع العربي. وصل العقاد إلى مكانة في السينما العالمية لم يصل إليها أي مخرج عربي سواه، سواء من خلال تحقيق لأفلام تاريخية كبرى أو من خلال إنتاج سلاسل هوليوودية ناجحة، او عبر قدرته على تمويل مشروعاته السينمائية بإمكانات ضخمة بمساهمة دول ومؤسسات أو بعناصر فنية عالمية من الطراز الأول. لكن قبل كل ذلك، عمل العقاد في مهن عديدة ليعيش ويدرس في جامعة كاليفورنيا، وهو بذلك أثبت أن الإرادة هي جوهر الإنسان العازم على بلوغ أهدافه، مهما كانت ظروفه الخارجية المحيطة، محبطة أو مشؤومة أو انهزامية، أو مقبولة لكنها بحاجة إلى المزيد من الحركة للتقدم والإثمار، مراهنًا على أن الجوهر الداخلي، هو الذي يصنع الإنسان والظروف، خصوصًا إذا كان هذ الجوهر الباطني ساميًا.

ترك العقاد تأثيره الفني الإبداعي، بين تمثيل وإنتاج وإخراج، من خلال أشهر أفلامه، "الرسالة" و"أسد الصحراء"، وكان يحلم بأن يترك أثرًا أكبر مع عملين لم ينجزهما لأسباب مادية، وإن ظلّ يحلم بهما: "صلاح الدين الأيوبي" و"فتح الأندلس". لكن المفارقة الأكبر في ملابسات رحيل العقاد، تبقى أن نهايته جاءت على يد أفراد التنظيم الإرهابي، الذي أعلن (العقاد) قبل أسبوعين فقط من رحيله، عن نيته الجدية لإنتاج فيلم يتعرّض فيه لسيرة زعيمه أسامة بن لادن.

ولأنه كان يعتز بتاريخه العربي، خصوصًا فتراته التي شهدت تأسيسًا لحضارة إنسانية، أولى اهتمامًا لهذا التاريخ، من أجل التأثير، ليس في الإنسان العربي فقط، بل لإيجاد وسيلة عصرية لمخاطبة المتفرج الغربي، لا سيما الأمريكي، لأنه، هناك، في غربته الأمريكية، رغم تجنّسه، شعر بفضاء الغربة من جهات أخرى، غربة مكثفة، لا تقتصر على الابتعاد عن الوطن، لأنه حمل سوريا، وحَلَب مسقط رأسه، في نبضاته، ووزّعها، لحظات إبداعية في أعماله، بل شعر بتلك الغربة، التي لا يعرف فيها "الآخر" عن العربي، سوى صورة أيديولوجية مرسومة له سلفًا.

سعى العقاد إذن وراء فهم العقل الأمريكي، ووجد الوسيلة الفنية لمخاطبته، وعكس ذلك في فيلم "الرسالة"، الذي أنتجه وأخرجه، هادفًا إلى إضاءة أبعاد أخرى على صورة العرب والمسلمين، لا كما يروّج محترفي نظريات صراع الحضارات واتهاماتهم الموصومة بالإرهاب، ولا كما يدلّل حلفاؤهم الأعداء من أتباع التكفير والتقتيل باسم الإسلام. ولم يغب عن بال هذا المبدع حقيقة أنه، بشروعه في تصوير فيلمه، يمشي داخل حقل ألغام، لذا استعان بستة كتّاب من أجل صياغة سيناريو فيلمه، منهم كاتب كل من "عمر المختار" - النسخة الإنجليزية-  و"لورنس العرب" الإيرلندي هاري كرايغ، الذي تعاون مع عبد الحميد جودة السحار وتوفيق الحكيم وأحمد شلبي وكاتبين من مؤسسة الأزهر، وذلك حرصًا من العقاد على تقديم المتناغم الذي تُجمع عليه الأطراف كافة، فلا يكون هناك مجال لملاحظة من نوع ما.

 ولهذا السبب تحديدًا، لم يجسّد الشخصيات الرئيسية في فيلمه، الرسول وصحابته وزوجاته، لما يعترض هذا المسعي الفني من محاذير فقهية، غير أنه استطاع العثور على الحلول الدرامية من خلال الإشارة إليها من خلال ملفوظ الشخصيات الأخرى، وحركاتها، وحواراتها الديالوجية والمونولوجية، متجاوزًا التجسيد المادي الذي اعتاد عليه المتلقي الأجنبي. كما استطاع أن يجذب ذلك المتلقي لمتابعة فيلمه، والتفاعل معه، مهتما بما يراه من مشاهد، شكّلت لوحة سينمائية فسيفسائية، ذات خصوصية خاصة جدًا، زاوجت بين عناصر العمل الكلية، وارتقت بالإحساس الباطني للإنسان، الذي لم يخل من صراعات درامية، بعضها غاص في الشك أكثر، وبعضها تجادل مع الشك إلى أن خرج إلى دائرة اليقين.

رسم مصطفى العقاد شخوصه ضمن مدار الإيقاعات الجوانية المتصارعة، المتصالحة، المتضادة، والمتناقضة، بكل وجداناتها، وقواها، وذهانيتها

رسم العقاد شخوصه ضمن مدار الإيقاعات الجوانية المتصارعة، المتصالحة، المتضادة، والمتناقضة، بكل وجداناتها، وقواها، وذهانيتها. ورسم القوس التاريخي لفيلمه، بزخم متفرد، تضافرت فيه العناصر الطبيعية البشرية، والجغرافية، والمكانية، والحدثية، منتجَة عالمها الذي لا يمكن أن يكون إلا في فيلم "الرسالة"، ذي الظروف النفسية، الظلالية، والضوئية المعبرة عن تغييرات حاسمة في التاريخ البشري، جاعلة ازدحام الحالة النفسية بضجيجها، وهدوئها، وتناقضها، وجدلها، وطمأنينتها، شخوصًا لا تقل أهمية عن ازدحام المشاهد بشخوص القبول والرفض والصراع والاستقرار.

اقرأ/ي أيضًا: متى ستُوثق السينما الجزائرية لجزائر الحاضر؟

كما أن الموسيقى التصويرية لعبت دورًا روحيًا متناميًا، عبّرت فيه ليس عن الحدث فقط، بل كانت هي بحد ذاتها حدثًا لا ظلًا لحدث، خصوصًا أن مؤلفها الفرنسي موريس جار (1924 - 2009)، والذي تحوّل من اليهودية إلى الإسلام، له تجربة مشهودة في إبداع الموسيقى المصاحبة للافلام التاريخية، يؤكدها حصوله على ثلاث جوائز أوسكار، فضلًا عن ست ترشيحات أخرى لنفس الجائزة، من بينها ترشيح عن فيلم "الرسالة". تكاملت هذه الموسيقى مع أدوار الشخصيات، التي نذكر منهم، عبد الفتاح الوسيع (عبادة)، محمد الساحلي (التاجر المرابي)، عيسى عبد الحفيظ (مرشد المشككين إلى مكان الرسول وصاحبه الصدّيق)، عمران المدنيني (سهيل بن عمرو)، على أحمد سالم (بلال بن رباح)، سالم قدرة (قاتل حمزة)، وغيرهم، لكن الملفت في البطولة، في نسختي الفيلم العربية والإنجليزية، حضور شخصيات فنية قديرة بالفعل، من طينة منى واصف وإيرين باباس وعبد الله غيث وأنتوني كوين، تجعل فعل المشاهدة نفسه دسمًا ومشهيًا ومنتظرًا.

اقرأ/ي أيضًا:

إيليا سليمان.. كيف تصل العالمية بثلاثة أفلام فقط

حكايات عن عمر الشريف في ذكرى رحيله