طرقتُ بابك ليلًا، ولجتُ وما أسهل ذلك. تفحصتُ المكان، وكانت الجدران المُهلهلة الأقرب إلي فاستندتُ عليها. لا مادة للكلام بيننا والحروف ضائعات، حاولنا، تلعثمنا، لجمتنا محاولاتنا السابقات البائسات ثم آوينا –طلبا للنجاة- إلى الصمت مرات ومرات، كأن الأبجدية، في كل جولةٍ، تُنسى.
أُراوغ الضمير المُخاطب، وأبتلع التأنيث والتذكير عمدًا، أقفزُ عليها، تحاصرني، أهربُ ككل ثائر في شارع يستفز ذا سلطة ويرفض الأسر، فيقاوم.
إني اليوم أقاوم! في كل صباح، في استيعاب الطُرق الضيقة، في عدّ الأيام الطويلة لزيارة المدينة البعيدة، عند النقطة الحدودية المُرة، في الأحلام المحاصرات، في الأماني المبتورة عن شجرة لوزٍ حُرة تغمرني بزهرها إذا ما وطأ الربيع الأرض.
"كزهر اللوز أو أبعد"،
صار أبعد... أبعد.
إني أراوغ الأفعال، لا تأنيث أو تذكير... تُحاصرني مرة أخرى، أَأفلِت؟ آآآه، قد وقع في الأسر: الثائر!
يا كُلي آتي إليكَ، أتسللُ في حُلمٍ، أُمَسّد شَعر الطفل الخائف، تعالَ، اقترب، تمسك جيدًا بطوق النجاة الهارب، اركض وراءه إذ ما تفلّت؛ حذارِ أن تغيب عن عينيك القشة.
أُهدهد لك بكل الأغنيات التي أحفظها وجعبتي شحيحة، مِرارًا شكوتُ تخلخل حِفظي، فأرتجِل! تَمُدني بالعون: بِضعُ كلمات وهمهمة... نغني سويًا: أنفسنا.
لم تُغلِق الباب بعد، تخاف خلوة، ضيفتكَ لا زالت واقفة تتفحص شقوق الجدران، تَعِدُ للمرة العشرين بلاط الدار، تُدقق في التفاصيل القديمة الباهتة: ها هنا مقعدنا الأثير، صار مُغبرًّا! ومنضدة الشاي والبسكويت، قد ابتلع العفن ما كان عليها! أما أصيص الريحان، فليس فيه إلا ساق نبتة ميت! وهناك فوق التلفاز صورة لنا مُعلقة على الجدار، كنا كما يبدو مُبتسمين وواثقين إلى حد الاختيال من الاحتمالات التي سندشنها سويًا، تبدو اليوم مائلة.
عيناك مُسمّرتان في العدم، تخاف لقاء –لم يكن في الحسبان- بين العينين، تعرفُ حتماً أنه سيُربكك ويفضحك. تخشى التّعري، فترتدي تَصّنُعاً قمصان الجِلفة وتتمنّع! ثم تبدأ، في محاولة مُضحكة للهروب، الشكوى من ألمك العضوي الذي أجبرتك الأيام على مُطارحته، تستهجن نزول الدولار، تضرب كفًا بكف! تتكلم، تستعرض مُضطربًا أحوال الأعمال والسياسة، تُحرك قدمك بشكل دائري: نقطة البداية والنهاية واحدة، حلقة مفرغة، وكذلك نحن!
تنتهي الجولة! ويتبدد العِناق أو وهمه.
اقرأ/ي أيضًا: