تضبط قمر مشيتها على الصوت الذي يحدثه خلخالها فيعرف المارة متى تكون مستعجلة، ومتى تمشي على مهل. استقبلتها سالمة منذ كان عمرها ثمانية عشر سنة، لم تسمح لها بالعمل في الماخور إلا بعد انقضاء سنة على قدومها، تعلمت فيها قواعد الصنعة فأصبحت تجيد الدلال والغنج، سريعة البديهة، ذكية تتقن فنون الإغواء، فالعمل كفتاة متعة لا يتطلب شهادة مدرسية ولا دروسًا في التاريخ واللغة والحساب. تعلمت بعض الكلمات الفرنسية والإيطالية من الزبائن الذين كانوا يتوافدون باستمرار لبيت سالمة، فهي تعد من أبرز زعيمات القطاع في منطقتها لذلك تنتقي زبائنها بشكل جيد، وجلهم من أصحاب المقامات الرفيعة في المنطقة.
بعد اكتمال السنة، أقامت سالمة حفلًا في بيتها دعت فيه كلًا من مدير مركز الشرطة الذي قضى السهرة وهو يتغزل بفاطيما، كان يقول دائمًا إنها أشهى عسل أسود تذوقه، أما قابض مكتب البريد فلم يتحرك قيد أنملة من جانب حبيبة الشقراء الجميلة التي تجيد الغناء، فأطلق عليها لقب حبيبة مسيكة تشبهًا بالمغنية اليهودية التونسية التي ماتت في ظرف غامض، قيل إنه تمت تصفيتها لأنها كانت جاسوسة لصالح المقاومة.
أصبحت قمر حديث كل المنطقة وكأنها قطعة من السماء، حنطية البشرة بشعر كستنائي وعينين عسليتين بهما بريق عجيب يأسر القلوب، صحيح أنها فقدت نقاءها وطفولتها منذ سن الرابعة عشر، لكن الليلة ستكون مميزة لها بما أنها ليلتها الأولى في عالم الاحتراف. ليلتها رقصت قمر كالملائكة فكانت حركاتها رشيقة ومتجانسة وصوت خلخالها يدغدغ القلوب مع كل هزة من ساقها.
مع بداية الموسم الدراسي الجديد، انتقل إلى منطقة الجريد مدرس شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرين، كان قد قدم من إحدى ولايات الشمال الجميلة الباردة المنعشة المزهرة إلى هذه المنطقة الصحراوية جنوب البلاد، حيث الهواء الحار والشمس الحارقة حتى الغروب قد ترك أثرًا على وجهه منذ الأسبوع الأول، شغل المدرس الجديد تفكير أغلب سكان المنطقة فلم يتجاوز الأمر بعض الساعات حتى عرفوا أصله وفصله وعمره واسم والده ووالدته وعدد أخواته البنات والأولاد. وخلال يومين فقط أصبح حلم كل فتيات المنطقة، حتى جميلة الأربعينية التي لا تحمل من صفة الجمال إلا الاسم باتت تتزين وتمر يوميًا من تحت شباك القسم، فتجلس حتى يشارف الأستاذ على إنهاء درسه، ثم تغادر مسرعة قبل أن يرن جرس المدرسة.
ككل جمعة من أول كل شهر، تأخذ سالمة البنات للفحص الدوري في مشفى المدينة فتترأس هي الموكب لتتبعها بقية الفتيات، بينما تتخلف قمر عنهن كعادتها قاصدة ذلك معرضة نفسها لتوبيخ سالمة أولًا، ومغازلات المارة وأصحاب الدكاكين. يومها كان المدرس الجديد خارجًا من المدرسة بعد أن أنهى درسه، تدافع أمامه عدد من الفتية وهم يهتفون "قمر اربعطاش.. قمر اربعطاش". لم يفهم في بادئ الأمر سبب الهتاف إلى أن رأى موكب سالمة، لم يستطع التحرك قيد أنملة وقف فاغرًا فاهه ناشبًا عينيه في قمر التي مرت بدلال من أمامه تاركة غطاء رأسها يسقط على كتفيها ليظهر شعرها الكستنائي تحت أشعة الشمس مما زاد من جماله، صُمّت أذناه عن كل الأصوات إلا صوت خلاخالها الذي ضبط عليه دقات قلبه.
لم تفارق صورتها مخيلته، سأل عنها وعرف أنها إحدى فتيات سالمة، لم يتجرأ على الذهاب إلى هناك، هو ذلك الشاب الذي تربى على تطبيق الدين والشريعة كيف له أن يذهب إلى ماخور؟ وهو الذي لم تتعد علاقته بالنساء تلك المغامرات الساذجة مع ابنة عمه عندما كان مراهقًا.
بحث عن بيتها وأصبح من أهم المحطات التي يمر بها يوميًا رغم اضطراره إلى الالتفاف على روضة أبي الفضل النحوي ثم المرور بالجامع الكبير بوسط المدينة، ونهج الصاباط ذي السقف المقبب الذي يقي المارة حرارة الشمس، لعله يلتقي قمر ولو صدفة، لكنه لم يكن يعلم أن خروج الفتيات كان ممنوعًا، ظل على هذه الحال لمدة ثلاثة أسابيع حتى لاحظ كل من في الحي مجيئه وذهابه ووقوفه المتكرر أمام الماخور. وصلت أصداؤه إلى سالمة وإلى بقية الفتيات، فكن يتغامزن كلما أتى أحد على ذكره أما قمر فكان الفضول يقتلها، من يكون هذا الذي جن بها فصار خيالها يسرح إلى ما لا نهاية متمنية لقياه.
طفح الكيل بصاحبة البيت حتى أرسلت إلى المدرس مرسالًا تطلبه فيه. خاف في بادئ الأمر ظنًّا منه أنها أعدت له إحدى المكائد للإيقاع به أو تأديبه، فهي قادرة وكل من في مركز الشرطة تحت إمرتها، لكن شوق اللقاء غلبه فقرر الذهاب كلف ذلك ما كلفه.
وقف متيبسًا أمام باب البيت مترددًا، تحجرت يده وأبت أن تتحرك لتطرقه، وفجأة فُتح الباب وظهرت أمامه امرأة في الخمسين أو أكثر بقليل، ترتدي ثوبًا أحمر بورود بيضاء صغيرة تضع على رأسها غطاء أسود، لم تكن ملامحها تنم عن أي رقة، بل قاسية مثل قسوة طبيعة هذه المنطقة، انزاحت قليلًا تاركة له المجال للدخول، دلف ثم تبعها إلى أن دخلا غرفة تتوسط أربعة، اثنتين عن اليمين ومثلهما عن الشمال. أشارت له بأن يجلس ثم جلست قبالته، وضعت ساقًا فوق ساق وسحبت سيجارة من العلبة التي كانت على الطاولة.
لم تنطق بكلمة بل بقيت مركزة نظرها على المدرس تتفرس ملامحه بدقة، بينما انتابه الرعب فاضطربت معدته لدرجة انه أراد أن يتقيأ كل ما في جوفه. ابتلع ريقه بصعوبة ثم فتح فمه ليقول شيئًا فخرج صوته غريبًا عنه وكأنه قرع طبل، ارتدت صدى كلماته في الغرفة فأعيد كلامه للمرة المائة "أريد أن أرى قمر". عم الصمت الغرفة من جديد وكأن الموت قد ابتلعها إلا من صوت كان قد حفظ وقعه في قلبه منذ أن سمعه لأول مرة، أزاحت الستار ودخلت مبتسمة كملاك.
بقيت واقفة بجانب سالمة ناظرة إليه مبتسمة ابتسامة خفيفة ارتعشت لها شفتها العليا، أما عن يديها فلم تدري ماذا تفعل بهما. رغم صمت الموتى الذي يسود الغرفة إلا أنهما لم تكفا عن الثرثرة. انسحبت الخالة تاركة لهما المجال، جلست على الكرسي قبالته بعد أن شغر المكان، شبكت أصابعها وضغط بقوة حتى احمرت أطرافها، كيف لها أن تكون بهذا التوتر والخجل وهي التي اعتادت أن تجعلهم يأتون زاحفين طالبين رضاها؟
كسر الصمت قائلًا "أردت أن أراك"، ثم سحب كرسيه وجلس قبالتها أمسك يديها فوجدهما باردتين كقطعة جليد، تحدثا طويلًا فزال الخجل الذي سيطر عليها وانشرحت تقاسيم وجهها مما زادها إشراقًا، وعند ما همّ بالمغادرة شدها من يدها وسحبها وراءه إلى وسط المنزل، ثم اتجه بها إلى الباب فتحه وخرجا دون أن يعترض طريقهما أحد بينما كانت الفتيات في ذهول تام يتلتفتن الى سالمة متسائلات عن سبب سكوتها وسماحها لهم بالمغادرة.
ومنذ ذلك اليوم لم ير أهل المنطقة الأستاذ أو قمر اختفيا كلاهما، ولم يعلم أحد بمكانهما، أما سالمة فكلما سئلت عن الموضوع ترد بابتسامة تعلوها مسحة حزن.
اقرأ/ي أيضًا: