في المناخ السياسي الذي تشكّل في الغرب عقب عملية "طوفان الأقصى"، يتعرّض من يرفع العلم الفلسطيني أو يصف ما يحدث في قطاع غزة بأنه "إبادة جماعية" إلى السجن والنبذ بل وحتى الطرد من وظيفته. ويبدو أن احتمال العودة إلى تصديق أننا في عالم أكثر حرية مما سبقه يبدو بعيد المنال، خاصةً في ظل ارتفاع حدّة القمع ضد من ينتقد الروايات الصهيونية.
في هذا الإطار، نستعيد كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية"، الصادر عام 1995، للكاتب والمفكر الفرنسي روجيه جارودي الذي لم يثِر فقط الجدل بتحدّيه للروايات الصهيونية، بل أدى إلى نبذ مؤلِّفه أكاديميًا وإدانته على نطاق واسع.
يُعيد روجيه جارودي في كتابه النظر في الأساطير التي برّر الصهاينة من خلالها احتلالهم لفلسطين وإقامتهم لدولة "إسرائيل"
ففي عام 1998، أُدين جارودي في فرنسا، بموجب "قانون غيسو"، بتهمة إنكار "الهولوكوست". ومن المثير للاهتمام أن جارودي لم ينكر المحرقة ولكنه اعترض فقط على العدد المتضخم من الضحايا، ما أدى إلى الحكم عليه بالسجن عدة سنوات مع وقف التنفيذ، إضافةً إلى غرامة كبيرة، وإجباره على الاستقالة القسرية من منصبه التدريسي في جامعة باريس الثامنة. ولكنه، رغم ذلك، واصل الدفاع عن الحق الفلسطيني وكشفِ أكاذيب "إسرائيل".
يُفكِّك جارودي في كتابه الروايات المحيطة بإنشاء بإقامة "إسرائيل". ومن خلال تصنيف هذه الأساطير إلى روايات لاهوتية وأخرى تعود إلى القرن العشرين، يُدقق جارودي في مضامينها السياسية، ويتحدى فكرة "المعجزة" الاقتصادية الإسرائيلية، ويكشف النقاب عن الحقيقة المتوارية وراء صناعة الأسطورة، إذ يقول في بداية كتابه إن هدفه إدانة التعمية الفكرية التي تتستر بها السياسة الإسرائيلية.
الأساطير اللاهوتية
ينتقد الكاتب الفرنسي تلاعب القادة الصهاينة بالدين لتبرير أفعالهم الوحشية. ويتحدى، على وجه التحديد، أسطورة "الأرض الموعودة" التي تدّعي أن الله وعد الشعب اليهودي في الكتاب المقدس بـ"أرض إسرائيل"، حيث يرى أن هذا التفسير انتقائي يتجاهل فقرات أخرى في الكتاب المقدس تتعارض معه.
ويؤكد جارودي على أن الكتاب المقدس لم يُقدِّم الأرض كهبة مطلقة، بل كوعد مشروط باتباع شريعة الله وطاعته، إذ يقول الكتاب المقدس إن "صهيون" لن تكون مقدسة إلا إذا سادت فيها شريعة الله، وأنها كمكان في حد ذاته ليس مقدسًا، والأمر الوحيد المقدس في "صهيون" هو العهد الإلهي الذي يتجلى في أفعال شعبه. ولكن تاريخ "إسرائيل" الحافل بالقتل والعنف والجرائم ينفي أن يكونوا قد استوفوا الشروط الأخلاقية للملكية الحصرية التي يدّعونها.
الأسطورة التالية هي أسطورة "الشعب المختار"، التي تدّعي أن الشعب اليهودي هو شعب الله المختار، وله مصير خاص واستحقاق في أرض "إسرائيل". وهو ادعاء يقول جارودي إنه يفتقر إلى الأدلة التاريخية، مشيرًا إلى حقيقة أن الكتاب المقدس يؤكد أن الله لديه عهد مع البشرية جمعاء، وليس فقط مع اليهود.
ثم يتناول أسطورة "يشوع" وهي إحدى الأساطير اللاهوتية التي تُستخدم لتبرير مصادرة الأراضي الفلسطينية، وتستند إلى فكرة أن يشوع بن نون، خليفة موسى، قاد شعب "إسرائيل" في غزو أرض كنعان، وقام بقتل جميع سكانها، ثم تطرق إلى عدم صحة هذه الروايات التوراتية من الناحية التاريخية، وخاصةً الأمور المتعلقة بالاستيلاء على مدينتي أريحا وعاي.
ويتعمّق تحليل جارودي في التداعيات المحتملة للتفسير الحرفي، ويتساءل عما إذا كانت هذه القصص، إذا تم اعتبارها حقيقة، تشجع على المزيد من أعمال الاستيلاء على الأراضي، وطرد السكان، والعنف، وتمجد نزعة التطهير العرقيالتي بالفعل تتبعها دولة "إسرائيل" الحالية.
أساطير القرن العشرين
في القسم الثاني من كتابه، ينتقل جارودي إلى أساطير القرن العشرين، وأولها "أسطورة الصهيونية المعادية للفاشية". فعندما اندلعت الحرب ضد هتلر، وقفت جميع المنظمات اليهودية تقريبًا إلى جانب الحلفاء، لكن الصهاينة الألمان اتخذوا موقفًا مغايرًا بتبنيهم سياسة التهادن والتعاون مع هتلر، وظلت السلطات النازية حتى في أشد لحظات اضطهاد اليهود تحافظ على صلاتها بالصهاينة الألمان الذين كان همّهم الوحيد إقامة دولة يهودية قومية، مثل مناحيم بيغن وإسحاق شامير.
إذ لم يكن الهدف الأساسي للصهاينة آنذاك إنقاذ أرواح اليهود، بل إنشاء دولة يهودية في فلسطين. والدليل تصريح ديفيد بن غوريون في كانون الأول/ديسمبر عام 1938 أمام جمع من الصهاينة العمّاليين: "لو عرفت أن بالإمكان الاختيار بين إنقاذ جميع أطفال اليهود في ألمانيا بتوطينهم في إنجلترا ونقل نصف هؤلاء الأطفال فقط إلى أرتس يسرائيل – عبارة استخدمها الصهاينة للإشارة إلى أرض فلسطين – لفضَّلت الخيار الثاني دون شك".
ويكشف المؤلف كذلك عن مذكرة مُرسلة من الاتحاد الصهيوني الألماني إلى الحزب النازي حول التعاون مع الحكومة النازية. ومن المثير للدهشة أن النازيين رحّبوا بهذا التحالف لأنه يتماشى مع هدفهم المتمثل في نقل اليهود خارج ألمانيا لتسهيل إنشاء دولة يهودية في فلسطين، بدليل ما كتبه ألفريد روزنبرج، وهو من أبرز منظري الفكر النازي، حول هذه المسألة: "يجب دعم الصهيونية بكل قوة حتى يتسنى نقل مجموعة كبيرة من اليهود الألمان إلى فلسطين سنويًا".
ثم انتقل إلى الأسطورة التي قلبت حياته رأسًا على عقب، أي تلك المتعلقة بإبادة 6 ملايين يهودي، والتي قال إنها واحدة من الأكاذيب الصارخة التي ألحقت ضررًا كبيرًا في منطقة الشرق الأوسط، بل والعالم كله. إذ أصبحت بمثابة عقيدة تبرر وتقدّس كل صور الابتزاز التي تمارسها "إسرائيل" في فلسطين، وكل ذلك نتيجة تصديق "محكمة نورمبرج" لهذا الرقم واعتماده رسميًا. ومن حينها، لم يتوقف استخدامه للتأثير على الرأي العام وتوجيهه، مع أن هذا الرقم لا يستند إلا لشهادة شخصين فقط ومن دون أدلة.
أدى الكتاب إلى نبذ جارودي أكاديميًا والحكم عليه بالسجن وإجباره على الاستقالة من منصبه التدريسي بجامعة باريس الثامنة
ويوضح جارودي أن استخدام لفظ "الهولوكوست"، وهي كلمة ذات دلالة لاهوتية، كان مقصودًا لإضفاء طابع التضحية على المذابح الحقيقية، وإدخالها بشكل أو بآخر في صميم المشيئة الإلهية. فلفظ "الهولوكوست" يُشير إلى القربان الذي يُقدَّم للرب على سبيل التضحية ثم يُحرق على المذبح، وهو طقس من أكثر الطقوس قداسة لدى اليهود، وكان المقصود من استخدام الكلمة لوصف إبادة اليهود، هو تشبيه الشعب اليهودي بالقربان الذي حُرق لأنه أكثر الشعوب قداسة.
وإلى جانب ما سبق، يتحدى جارودي "أسطورة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" المستمرة، ويُقدِّم أدلة تاريخية تثبت الوجود الفلسطيني الكبير في "أرض إسرائيل" قبل وقت طويل من وصول المستوطنين الصهاينة، ويقول إن القادة الصهاينة تعمَّدوا التقليل من أهمية الوجود الفلسطيني أو محوه من أجل تبرير استحواذهم على الأراضي وتهجير السكان الأصليين.
وأخيرًا، يتناول جارودي أسطورة "المعجزة الإسرائيلية" المنتشرة، والتي تصوّر تطور "إسرائيل" باعتباره إنجازًا رائعًا لم يتحقق إلا من خلال جدارتها وبراعتها، لكنه يكشف عن دور المساعدات الخارجية، من تعويضات ألمانية بعد الحرب العالمية الثانية ومساعدات اقتصادية وعسكرية لا حدود لها تقريبًا من الولايات المتحدة الأمريكية، في تغذية النمو الاقتصادي في "إسرائيل" والتقدم التكنولوجي، بالإضافة إلى التبرعات التي يُقدمها يهود العالم. ويُجادل بأن هذا الاعتماد والدعم الخارجي يقوّض ادعاء وجود "معجزة" ذاتية الصنع.