في كتابه "القفص الحديدي: قصة الصراع الفلسطيني لإقامة دولة"، يُلقي المؤرخ الفلسطيني الأمريكي رشيد الخالدي الضوء على التاريخ المعقد والمضطرب لسعي الشعب الفلسطيني الدؤوب نحو الاستقلال وإقامة دولته المنتظرة، وما رافق ذلك من تعقيدات أعاقت نجاح جهودهم.
يركّز الخالدي في تحليله على الجانب الفلسطيني من القصة، وما بذله من جهود لتحقيق الاستقلال على الرغم من كونه الطرف الأضعف في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
سعت بريطانيا إلى إدامة اليهمنة الصهيونية وتهميش الأغلبية الفلسطينية وحبسها داخل قفص حديدي لتضمن عدم وصولها إلى تشكيلات سياسية متماسكة
اختار الخالدي من "القفص الحديدي" عنوانًا لكتابه للإشارة إلى القيود والتحديات التي واجهها الفلسطينيون في سعيهم لإقامة دولة ذات سيادة. وتحت هذا العنوان، يستكشف المؤرخ الفلسطيني تأثير القوى الخارجية مثل سياسات القوى العظمى والدبلوماسية الدولية على النضال الفلسطيني، ويتناول في الوقت ذاته الديناميكيات الداخلية للقيادات الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني، ويفحص بدقة الانقسامات والخلافات التي شكلت مسار ونتائج نضالهم.
المجتمع الفلسطيني قبل نكبة 1948
أدت النكبة التي وقعت عام 1948 إلى إحداث تحول "مزلزل" في المشهد السياسي والجغرافي في فلسطين. وعلى الرغم من أن العرب كانوا يشكلون الأغلبية ويمتلكون معظم الأراضي، إلا أن تصاعد الصراع في غضون أشهر أدى إلى طردأكثر من 750,000 فلسطيني من المناطق التي سرعان ما ستصبح جزءًا من دولة "إسرائيل"، التي خلقت أغلبية يهودية وشتتت الشعب الفلسطيني الذي لا يزال محرومًا من حقه في العودة.
ثمة وجهات نظر متباينة حول أسباب تهجير الفلسطينيين، إذ يدّعي الإسرائيليون أن الدعوات العربية المؤقتة للرحيل حتى تدخل الجيوش العربية لتتخلص من اليهود هي سبب هجرتهم، بينما تؤكد الروايات العربية أنهم هُجِّروا باستخدام القوة المسلحة الساحقة، ونتيجة الدعم الدولي للصهاينة والانقسامات الداخلية بين الدول العربية، وهذه هي الرواية المُثبتة تاريخيًا.
ومع ذلك، يقول الخالدي إن أسباب الهزيمة الحاسمة في عام 1948 لا يمكن إيجادها في ذلك العام، وإنما يجب العودة للفترة التي سبقت القتال والنظر إلى شروط الانتداب البريطاني، والمآزق الفريدة التي كانت تُخلق للفلسطينيين، والمشكلات البنيوية في المجتمع الفلسطيني والقيادات الفلسطينية.
وأول ما ينتقده الكاتب هو التحليلات التبسيطية التي تقارن المجتمع الفلسطيني بالمجتمع اليهودي المتماسك أي الـ"يشوف". إذ حصل الأخير على دعم قوي من أتباع الديانة اليهودية في جميع أنحاء العالم والقوى الإمبريالية الكبرى، بما في ذلك "عصبة الأمم". وفي المقابل، كان الفلسطينيون يفتقرون إلى دعم خارجي كبير، على الرغم من تعاطف الدول العربية المحيطة بهم.
وذلك إلى جانب وجود فوارق اقتصادية كبيرة بين العرب الفلسطينيين واليهود في فلسطين. ففي أواخر عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن العشرين، انخفض عدد السكان اليهود في فلسطين بسبب الصعوبات الاقتصادية والكساد الكبير وتراجع الهجرة. ولكن في منتصف الثلاثينيات، أدت موجة هجرة كبيرة مصحوبة برأس المال الذي جلبه اللاجئون اليهود الألمان إلى تغيير جذري في الوضع. ونتيجة لذلك، شهد القطاع اليهودي نموا اقتصاديًا استثنائيًا، وحافظ على معدل نمو سنوي مرتفع مقارنة بالقطاع العربي.
وامتدت الفوارق الاقتصادية إلى دخل الفرد، حيث كان دخل الأفراد في القطاع اليهودي أعلى بكثير من دخل الأفراد في القطاع العربي. كما وُجدت تفاوتات شديدة في رأس المال البشري، وخاصة في مجالات محو الأمية والتعليم والتدريب الفني، والتوسع الحضري، والتجانس السياسي، مما أدى إلى مجتمع أكثر تطورًا يتمتع بقدرة أكبر على بناء الدولة.
القفص الحديدي
لكن هذه ليست الصورة التي روّجتها بريطانيا التي ادعت أن الجانبين كانا يعيشان الوضع ذاته تحت الانتداب، وأنها تبنت دور الوسيط العادل بينهما وحاولت الموازنة بين مصالحهما. لكن الحقيقة أن بريطانيا كانت عازمة على إدامة الهيمنة الصهيونية وتهميش الأغلبية الفلسطينية وحبسها داخل قفص حديدي من الحرمان القانوني والسياسي، لتضمن عدم وصولهم المنظّم إلى التشكيلات السياسية، مما تركهم من دون منصة متماسكة للسيادة المستقبلية.
وخلافًا للمناطق العربية المستعمرة الأخرى، ناضل الفلسطينيون من أجل إنشاء هيكل بديل مماثل للوكالة اليهودية، لكن بريطانيا رفضت الاعتراف الدولي بالممثلين الفلسطينيين.
ولم تكتف بذلك، بل قررت التلاعب بالمؤسسات الدينية كوسيلة للحكم غير المباشر بهدف تشتيت طاقات النخب الفلسطينية وتحقيق الانقسام بينهم، فقامت بإعادة هيكلتها، وقلبت التسلسل الهرمي التقليدي بين المفتي والقاضي، وعينت الحاج أمين الحسيني مُفتيًا بهدف تحويل المعارضة ومنع المقاومة الفلسطينية الموحدة. وبالفعل، خدم الحسيني المصالح البريطانية في الحفاظ على السيطرة والهدوء حتى منتصف الثلاثينيات عندما انضم إلى التمرد الشعبي ضد البريطانيين والصهاينة.
فشل القيادات الفلسطينية
من خلال التعمق في ديناميكيات القيادة خلال الانتداب البريطاني في فلسطين، يكشف الكتاب عن شبكة معقدة من المنافسات النخبوية، خاصة بين الفصائل المرتبطة بعائلات قوية مثل الحسيني والنشاشيبي، وكيف استغلت بريطانيا هذه الانقسامات الداخلية للحفاظ على السيطرة، مثل الخلاف حول الولاء لـ"المفتي العام" الحاج أمين الحسيني مقابل المعارضة بقيادة راغب بك النشاشيبي، وتصاعد الخلاف إلى صراعات عنيفة خلال ثورة 1936-1939.
وتطرق الخالدي إلى ضرورة بريطانيا الاستراتيجية لخلق انقسامات بين السكان الفلسطينيين، خاصة بعد رفض "وعد بلفور" والانتداب، فلجأت إلى خنق الأصوات المعارضة من خلال التأثير المالي على التغطية الصحفية والانتماءات السياسية. وعلى الرغم من الطبيعة الغامضة لهذه المعاملات، فإن الأدلة التاريخية تشير إلى تأثيرها وهدفها المزدوج كوسيلة لجمع المعلومات الاستخبارية عبر الاتصالات العربية وتشتيت المقاومة.
ثم يأخذ السرد نظرة أعمق، ويتتبع الديناميكيات المتطورة للمقاومة السياسية الفلسطينية خلال أوائل القرن العشرين. ففي البداية، تبنى استياء النخبة من الحكم البريطاني القمعي نهجًا دبلوماسيًا ساعيًا إلى الحكم الذاتي. لكن فشله أدى إلى التحول نحو استراتيجيات المقاومة، وظهر جيل جديد من المنظمات الشعبية مثل "حزب الاستقلال الفلسطيني"، الذي دعا إلى اتخاذ موقف صارم ضد بريطانيا ورفض النهج الاستسلامي الذي اتبعته القيادات الفلسطينية حتى ذلك الحين.
وقد عبّرت أعمال التمرد ضد المصالح البريطانية والصهيونية، وحتى العربية الأخرى، عن السخط الفلسطيني المتصاعد. وكان ظهور هذه المنظمات بمثابة خروج عن القيادة التقليدية، مما أثار القلق بين النخبة والسلطات البريطانية والصهاينة.
يُلقي الخالدي في كتابه الضوء على التاريخ المعقد والمضطرب لسعي الشعب الفلسطيني الدؤوب نحو الاستقلال وإقامة دولته المنتظرة
وواجه الزعماء التقليديون، وهم عالقون بين المواجهات العامة مع البريطانيين والعلاقات الخاصة معهم، تحديات في الحفاظ على سيطرتهم، خاصة مع تطور المواجهات اللفظية إلى مظاهرات منظمة بلغت ذروتها في أحداث مأساوية مثل احتجاجات يافا عام 1933، التي شكلت تراجعًا في القيادة ذات الطراز القديم، والتحول إلى موقف أكثر حزمًا وتطرفًا ضد القوات البريطانية والصهيونية، وهو ما تجسد في شخصيات مثل عبد القادر الحسيني.
ردًا على هذه التحولات، سعت القيادة التقليدية إلى تقويض أو استمالة الحركات المتنامية، وإيجاد حلفاء في القيادة البريطانية والصهيونية، لكن هذا لم يحدث. ونتيجة الإحباط من الزعماء التقليديين، ظهرت أشكال أقسى من المعارضة، بما في ذلك الانتفاضات المسلحة، والإضراب العام. وبالرغم من أن تلك الأحداث كانت عفوية في البداية إلا أن الزعامات التقليدية نجحت في استمالتها بعد ذلك، لكنها لم تستطع السيطرة عليها بسبب أساليبها التقليدية، ما أدى في النهاية إلى فشل تلك الحركات بالكامل.
لهذا يُحمل الخالدي القيادات والمنظمات الفلسطينية بعض المسؤولية كونهم سمحوا بحدوث الانقسامات بينهم وإضعاف موقفهم بدلًا من اتخاذ موقف موحد وصارم يخدم مصالح الشعب الفلسطيني.