ما الذي تعنيه الفلسفة لمن لا يرغب في معرفة ما هو "الجدل الهيغلي" أو ما هي "الفينومينولوجا"، أو ما المقصود بـ"المنطق التوسعي" و"السياقية المعرفية".. لمن يعجز عن فهم لودفيغ فيتجنشتين، ولا يستطيع احتمال قراءة صفحة واحدة من كتاب كانط "نقد العقل المحض"؟
يُنسب إلى آينشتاين قوله إنه أراد دراسة الاقتصاد فوجده بدهيًا أكثر مما يجب، ثم اتجه إلى الفلسفة فوجدها معقدة أكثر مما يجب.. وهكذا استقر على دراسة الفيزياء.
إذن من الطبيعي أن يرى الكثيرون أن الفلسفة هي ميدان التعقيد والإبهام، فيعزفون عنها ويصمون آذانهم عن جدالاتها الغامضة، دون أن يذهبوا، بالضرورة، إلى دراسة الفيزياء، التي ربما كانت أكثر سهولة لآينشتاين فقط.
ما الذي تفعله الفلسفة، والحال هذه، إزاء الإنسان العادي، القارئ غير المتخصص؟ بم تسوغ وجودها أمامنا، نحن عامة الناس؟
كثيرة، وقديمة، هي المحاولات التي تسعى إلى بناء جسر بين خلوات الفلاسفة وبين الشوارع الغاصة بالبشر، بين انشغالات الفلسفة الخاصة، لغتها الصعبة وقضاياها النخبوية.. وبين هموم الحياة اليومية وهواجس البشر العاديين. يريد أصحاب هذه المحاولات إثبات أن الفلسفة ليست مجرد سعي نظري متعال وراء الحقائق الكبرى، وأنها تصلح لتكون رفيقًا للإنسان في مختلف أشكال عيشه، وأنها بالفعل، وإن بدا عكس ذلك، ماثلة في ثنايا حياتنا الدنيا وما يكتنفها من تقلبات ومحن وإنجازات وأحلام ونقصان وخفة وابتذال.
كثيرة، وقديمة، هي المحاولات التي تسعى إلى بناء جسر بين خلوات الفلاسفة وبين الشوارع الغاصة بالبشر، بين انشغالات الفلسفة الخاصة، لغتها الصعبة وقضاياها النخبوية
غير أن عددًا من ذوي النوايا الحسنة هؤلاء قد أسرفوا في تبييض سمعة الفلسفة، فحولوها إلى خزان مترع بالمواعظ الساذجة والحكم المكرورة، وحولوا الفلاسفة إلى أطباء روحيين ومرشدين نفسيين.. باعة مشعوذين لكل أنواع الأدوية السحرية التي تنفع لجميع الأدواء والعلل.. وتم اختزال المدارس والمذاهب الفلسفية والأفكار المركبة إلى مجموعة من الكليشات والمقولات المبسطة التي تشبه "حكم الروزنامة"، ما يجعلنا نتوهم أننا أمام أجوبة يقينية ودروس مؤكدة النتائج.. والأهم: نتوهم بأن هذه هي الفلسفة وهذا هو دورها.
لا ينتمي كتاب دانيال كلاين ذو العنوان الطريف "كلما وجدت معنى الحياة يغيرونه"، (ترجمة شهرت العالم، آفاق للنشر والتوزيع 2023)، إلى هذا الصنف. وإذا كان المؤلف يريد لنا أن نشعر بالألفة نحو تخصص الفلسفة المهيب، وأن نؤمن بأن الفلسفة ليست نائية عن مختلف همومنا وشواغلنا، وأن فيها الكثير مما يمتع ويبهج ويدعو إلى المرح.. فإنه لا ينزلق إلى تعليبها في كبسولات سهلة الاستعمال، ولا يهتم بتقطيرها إلى أجوبة حاسمة ويقينية. على العكس فهو يحرص على التنبيه إلى أن الأساس هو السؤال، وبالسؤال ننعش فضولنا ونتحفز إلى الإبحار وراء مزيد من الأسئلة، والإجابات التي نعثر عليها في الطريق هي في الحقيقة مقترحات ومقاربات تعمق تفكيرنا وتوسع من مداركنا وتجعل أفق حياتنا أرحب.. فضلًا عن تحولها إلى منطلقات لأسئلة أخرى جديدة، وفي رحلة التساؤل التي لا ترتوي هذه تكمن متعة المعرفة وأهمية الفلسفة.
التصفح المبدئي للكتاب يجعلنا نسيء الظن به وبمؤلفه، ففي كل فصل من الفصول الكثيرة ثمة مقبوس في المطلع لفيلسوف ما.. ماذا؟ ها نحن مجددًا أمام النصائح الذهبية المعتادة إياها؟! ولكن لا، فقراءة فصلين أو ثلاثة كفيلة في تبديد سوء الظن، ذلك أن العبارات المقتبسة، التي تبدو في بعض الأحيان أجوبة قاطعة، تتحول، في نقاش المؤلف لها، إلى عبارات خلاقة مشحونة بالدلالة وجلابة للكثير من الجدل الممتع ومحفزة لتقليب كل وجهات النظر والمعايرة بينها.
ولماذا يختارها الكاتب دون غيرها إن لم يكن يتبناها كخيارات حاسمة؟ هي من وجهة نظره أفكار منعشة، مفاتيح ذكية، علامات هادية إلى طرق مقترحة تستحق أن تُختبر، وربما هي عزاءات من نوع ما، وإشارات إلى إمكانية العثور على معنى.
كثر هم الفلاسفة الحاضرون هنا: أبيقور، أرسطو، شوبنهاور، جان بول سارتر، البير كامو، نيتشه، برتراند راسل، ديفيد هيوم، جون ستيوارت ميل، فرانسيس بيكون، بيتر سينجر.
أما مقبوساتهم التي يحضرون من خلالها فقد دونها دانيال كلاين في مفكرته على مدار عقود طويلة من حياته. بدأ في العشرين، عندما كان طالبًا في كلية الفلسفة، ثم انقطع فترة قبل أن يستأنف عادته مجددًا في فترة لاحقة.. وعندما أدركته الشيخوخة عاد إلى دفاتره القديمة، وبينها هذه المفكرة، وأراد أن يشاركنا التأمل في خياراته من المقبوسات والأفكار، فكان هذا الكتاب.
وبالطبع فثمة هنا سيرة فكرية للرجل: أطوار مزاجه، ومنعرجات تفكيره، تراوح عقله وروحه بين الإقبال والإدبار، اليأس والنشوة، الاهتمام واللا مبالاة.. وفي كل مرحلة وكل طور هناك فلاسفة يهتدي بهم ويستشير كتبهم ويستند إليهم. والحصيلة: حياة غنية مترعة بالتأمل والركض اللاهث وراء معنى. وإن لم يكن ثمة معنى واحد ونهائي فإن السعي الدؤوب نحو العثور على معنى ما، هو معنى أيضًا.
وما الموضوعات التي تدور المقبوسات حولها؟ إنها أسئلتنا القديمة الملحة نفسها: ما معنى الحياة، كيف نواجه الموت، كيف نحيا وسط كل هذه الألغاز، كيف نتصالح مع حقائق العالم الصلدة العصية على التغيير، الحب، الجنس، الصداقة، الدين، الإلحاد، العلم.
ورغم أن كلاين يستعرض الكثير من المذاهب والرؤى فإنه لا يخفي تفضيله (النسبي) لمذهب المتعة (ورائده أبيقور) الذي يجد في ظلاله شيئًا من الراحة والانسجام، والقدر الأوفر من المقبوسات كان من نصيب الإلحاح على "العيش هنا والآن" بعيدًا عن الاختباء في حضن الماضي الزائل أو الهرب إلى المستقبل الذي يأت بعد. ولكن كلاين يعرف بأن الأمر ليس بهذه البساطة، إذ يبدو أن أمرًا ملحًا وآسرًا يجعل الناس يفرون من حاضرهم إما إلى الخلف أو إلى الأمام، والدليل هذا العدد الكبير من الفلاسفة الذين أثاروا المسألة وألحوا على هذا الاقتراح.
غير أن سمة الكتاب الأبرز هي المرح، ويبقى لافتًا ومثيرًا للإعجاب كيف يستطيع كاتب المرح وصناعة الدعابة في حضرة كل هؤلاء الفلاسفة الجادين وكل هذه الأسئلة التي تدعو غالبًا إلى الغم وتثير كثيرًا من الضيق بل واليأس؟!
يعرّف الناشر بـ دانيال كلاين على أنه "مؤلف كتاب رحلات مع أبيقور الأكثر مبيعًا في صحيفة لندن تايمز، ومؤلف مشترك مع توماس كاثكارت لكتاب "أفلاطون وحيوان خلد البحر يدخلان إلى بار" الأكثر مبيعًا في صحيفة نيويورك تايمز.. درس الفلسفة وتخرج في جامعة هارفارد، ويعيش في ولاية ماساشوسيتس مع زوجته فريكي فويجست".