قصة حب استثنائية جمعت بين الاثنين. تعرفا إلى بعضهما في سن الطفولة وسرعان ما ارتبطا بعاطفة فوارة أبدية. كان في الخامسة عشرة وكانت تصغره بسنة واحدة. وظلا جارين في السكن وزميلين في المدرسة، وإذ فرقهما الاختصاص، حيث صار هو طبيبا فيما اتجهت هي لدراسة الأدب، فإن الحياة عادت لتجمعهما في رحلة طويلة غنية ومليئة بالإنجازات.
وخلافًا لقصص الحب الخالدة فإن قصتهما لم تنته بالفراق القسري ولا بالهجران ولا بالموت المبكر. في عرف كثير من الناس، انتهت بما هو أسوأ: لقد تزوجا.
غير أن الزواج هنا لم يفعل شيئًا سوى تقديم تجسيد واقعي لفكرة أفلاطون الخيالية، حيث أنصاف الأرواح الهائمة التي تبحث عن أنصافها الأخرى لتسكن إليها بعد شقاء.
هو: إرفين يالوم (1931) الطبيب النفسي الأمريكي الشهير، ومؤلف رواية "عندما بكى نيتشه" التي ترجمت إلى قراء العربية وحظيت بانتشار واسع "نسبيًا" بينهم.
وهي: مارلين يالوم (1932 ـ 2019)، الناقدة والباحثة الأدبية والنسوية المرموقة، ومؤلفة عدد من الكتب الناجحة في مجال الأدب المقارن وتاريخ النسوية.
قال سينيكا منذ ألفي سنة "لا يستطيع الإنسان أن يكون مستعدًا للموت، إذا كان قد بدأ يعيش للتو. يجب أن نجعل هدفنا أن نكون قد عشنا ما يكفي"
ورغم أن واحدهما كان قارئًا مثاليًا ومستشارًا موثوقًا للآخر، ومع أنهما وجدا في الأدب تقاطعًا بين ميدانيهما المختلفين، فإنهما لم يفكرا يومًا في تأليف كتاب مشترك، إلى أن جاء العام 2019 (صارت هي في السابعة والثمانين وهو في الثامنة والثمانين) فهبط الإلهام على مارلين حاملًا فكرة كتاب تؤلفه مع زوجها. ولكن كلمة "إلهام" ربما تكون غير ملائمة هنا لما تحمله من رومانسية تشي بشيء من الترف وراحة البال. في الواقع جاءت فكرة الكتاب إثر اكتشاف أن الزوجة مصابة بنوع من السرطان القاتل. لقد أرادت المرأة المحبة أن تشغل نفسها عن شبح الموت، والأهم أن تدخل السلوى والعزاء إلى روح شريكها المضطربة والتي وقعت أسيرة الخوف من الفقد والوحدة بعد غياب التوأم.
اتفقا على أن يكتب هو فصلًا تعقبه هي بفصل آخر. هكذا: فصل منه وفصل منها حتى آخر الكتاب. ولكن مارلين لم تعش لتكتب فصلها الأخير، تاركة المهمة لإرفين الذي أنهى العمل ببضعة فصول متتالية دارت كلها حول تجربة الفقد والعيش وحيدًا بلا شريك. وأي عنوان أنسب للكتاب من هذا: "مسألة موت وحياة"، (ترجمة خالد الجبيلي، دار الروافد وابن النديم 2023).
إنه كتاب يثير الأسى، ولكنه محفز للفكر والتأمل كذلك. حزين وجميل في الوقت نفسه. وفي الفصول المتعاقبة لا نعثر على قصة حب عظيمة فقط، بل وعلى تجربتي حياة غنيتين وخصبتين، على نظرات عميقة في الحياة والعلم والأدب والطب، على أسئلة وجيهة حول المعنى، واقتراحات ذكية حول كيفية العيش. تأملات حميمة في الشيخوخة ومنغصات الجسد المحكوم بالنقصان، قلق النهاية، الذاكرة المخاتلة ومقاومة النسيان.
تحكي مارلين عن الألم الجسدي الذي يطلق السؤال الكبير القديم: لماذا؟ وعن الموت الوشيك الذي سوف يضع حدا لحياتها ورغباتها وأفكارها وطموحاتها، ولكنها في خضم صراعها المضني لا تنسى الحديث عن يد إرفن الحنونة التي تحاول أن تشاطرها الألم، وعن ذكرياتها الجميلة في الطفولة والجامعة، عن صديقاتها وتلاميذها وأولادها، عن إنجازاتها ونظرياتها، عن كتبها المفضلة وكتابها الموقرين، عن الأدب الفرنسي الذي عشقته وعاشت في كنفه.
ويحكي إرفين عن الطب النفسي، وعن عمله معالجًا نفسيًا لسنوات طويلة، وكيف أنه استثمر تخصصه في كتابة روايات وقصص حققت نجاحًا كبيرًا، عن الأدب والعلم والفلسفة، عن طموحات الشباب وتحدي الشيخوخة، وخاصة عن تلك المفارقة الكبيرة في حياته: لقد تخصص في معالجة المرضى الذين يعانون من ألم الفقد (فقد ابن أو أم أو شريك..)، وإذا به الآن يغدو واحدًا من هؤلاء، ما يجعله يقف أمام سؤال ملح: هل ينجح في معالجة نفسه؟ هل تنفعه نظرياته وأساليبه العلاجية. وفي قلب كل هذه الأحاديث هناك مارلين، التي كانت دافع حياته الأساسي، والتي لا يزال يرى فيها، بعد كل هذه السنوات، المرأة الأكثر ذكاء وجمالًا وفتنة وجاذبية.
كانت الأيام الأولى التي أعقبت اكتشاف المرض هي الأكثر صعوبة. شعر الزوجان بأن القدر قد وجه إليهما صفعة قوية لا طاقة لها على احتمالها. ثم بدأت مرحلة التوازن واستعادة رباطة الجأش، وبالطبع كان للكتب دور كبير في ذلك.
يكتب إرفين: "أتذكر الكثير من المرضى الذين كنت قد رأيتهم والذين كان الرعب من الموت يسيطر عليهم، بالإضافة إلى العديد من الفلاسفة الذين كانوا يحدقون في الموت مباشرة، فقد قال سينيكا منذ ألفي سنة "لا يستطيع الإنسان أن يكون مستعدًا للموت، إذا كان قد بدأ يعيش للتو. يجب أن نجعل هدفنا أن نكون قد عشنا ما يكفي". وقال نيتشه، أكبر واضعي العبارات: "إن العيش بأمان خطير"، وتبادرت إلى ذهني أيضًا عبارة أخرى قالها نيتشه: "يموت كثير من الناس في وقت متأخر، ويموت بعضهم في وقت مبكر جدًا. مت في الوقت المناسب". حسنًا، الوقت المناسب هذا هو بيت القصيد".
ثم يتذكر عبارة ثالثة لنيتشه تصلح لتكون جوهر العزاء الذي يبحث عنه: "الذي أصبح كاملًا، الذي أصبح ناضجًا، يريد أن يموت، أما الذي لم ينضج بعد فإنه يريد أن يعيش. كل من يتألم يريد أن يعيش حتى يصبح ناضجًا ومبتهجًا وتواقًا.. يتوق إلى ما هو أبعد، إلى ما هو أعلى، إلى ما هو أكثر إشراقًا".
وكذلك تقلب مارلين في محفوظاتها الأثيرة، غير أن همها يبقى منصبًا على الزوج المسكين: "لا يمكنني أن أفكر قبل الأوان في أن يصبح ايرف أرملًا. إن أشد ما يحزنني هو أن أتخيله وحيدًا".
يختم إرفين الكتاب، وكانت مارلين قد رحلت مخلفة إياه وحيدًا، بعبارات من سيرة فلاديمير نابوكوف: "إن مهد الصخور فوق هاوية، والحس السليم يقول لنا إن وجودنا ليس سوى صدع قصير من الضوء بين أبدين من الظلام". ويقول: "تلك الصورة تحيرني وتسكنني في آن معًا. أسند ظهري إلى ظهر الكرسي، وأغمض عيني، وأرتاح".