خلال يومٍ واحد اهتزّ الرأي العالمي على وقع حادثتين مروعتين، الأولى في لندن والثانية في باريس، وكانت السيارة أداة الجريمة في كل منهما، الثانية بالاصطدام والأولى بالدهس، وهي طريقة باتت شائعة خلال السنتين الأخيرتين في العمليات الإرهابية والهجمات المتطرفة، فما هو سرّ انتشارها؟
ما الذي حدث في باريس ولندن؟
مع عصر أمس الإثنين توجّه رجل بسيارته التي يقودها مُباشرة صوب شاحنة صغيرة للشرطة الفرنسية بجادة الشانزليزيه المعروفة في باريس، واصطدم بها فانفجرت السيارة المهاجنة، دون أن يحدث إصابات في صفوف أفراد الأمن الفرنسي، بينما أصيب المهاجم بجروحٍ بليغة تسببت في وفاته.
مُباشرةً طوّقت قوات الأمن المكان، وأعلنت سيطرتها على الموقف، وصرّح المتحدث باسم وزارة الداخلية، بيير أونري برانديه، قائلًا: "يبدو أنه عملٌ متعمّد"، ثُمّ رجّح أن يكون "عملًا إرهابيًا".
التصريحات البريطانية الرسمية الأخيرة وصفت عملية الدهس بـ"الهجوم الإرهابي" بعد أن كانت تصفه في البداية بالحادث "المروع" أو"الرهيب"
في نفس السياق، قالت صحيفة لوموند الفرنسية في تحقيقها الخاص عن الموضوع، إنّ السيارة المهاجمة والتي هي من نوع "رينو ميغان" بيضاء اللون، قد عُثر بداخلها على قنابل غاز ومسدسات، بالإضافة إلى كلاشينكوف ومتفجرات. ومع التحقيقات اتضح أن سائق السيارة المهاجم من سكان منطقة أرجونتي فال دواز، ويبلغ من العمر 32 عامًا، وهو من أصول تونسية، ويُدعى "آدم لطفي الجزيري".
اقرأ/ي أيضًا: رهاب الإرهاب
هذا الحادث الذي شهدته الشانزليزيه، جاء بعد ساعات من هجوم إرهابي على مسجد فينسبيري بارك بشمال لندن، إذ قام منفذ الهجوم بدهس عدد من المصلين بسيارته الفان، ما أسفر عن مقتل شخصٍ وإصابة عشرةٍ آخرين.
التصريحات البريطانية الرسمية، بداية من رئيسة الوزراء تيريزا ماي مرورًا بعمدة لندن صديق خان، وأخيرًا الشرطة اللندنية، تعاملت مع الحادث في آخر تطوراته باعتباره "هجومًا إرهابيًا"، بعد أن كانت التصريحات الأولية تُشير إليه باعتباره "حدث مروع" أو "رهيب".
يُذكر أنّ العملية تضمنت إلى جانب الدهس، طعنًا أيضًا، إذ قفذ من السيارة رجل بسكين طعن شخصًا واحدًا على الأقل، كما يُذكر أن منفذ العملية رجل بريطاني أبيض بعمر 48 عامًا، أكّد تعمده عملية الدهس بصراخه: "أريد قتل جميع المسلمين".
هذا وكانت العاصمة البريطانية لندن قد شهدت قبلها بأيّام هجومًا على جسر لندن بسيارة شحن صغيرة يقودها ثلاثة أشخاص، قاموا بدهس عدد من المدنيين ورجال الشرطة قبل أن يخرجوا من السيارة ويستأنفوا هجومهم بالسكاكين على المارة، ليخلفوا ثمانية قتلى وخمسين جريحًا، وليتبنى العملية تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
كيف تطورت هجمات الدهس بالسيارة؟
الهجوم بالشاحنات ليس جديدًا، فمنذ ثمانينات القرن الماضي استخدمت السيارات المفخخة لضرب الأماكن الآمنة، ففي سنة 1981 استُهدفت السفارة العراقية في بيروت بسيارة ملغمة، وفي سنة 1983 تعرضت السفارة الأمريكية لهجوم في لبنان بنفس الطريقة، لكن سلاح الدهس بواسطة السيارة، لم يكن شائعا إلا في السنوات الأخيرة.
ظهر استخدام الدهس عن طريق المركبات كسلاح للاستهداف في العلن مع الفلسطينيين في صراع التحرر من الاحتلال الإسرائيلي، إذ صدم فلسطيني سنة 2008 حافلة بها ركاب إسرائيليين في مدينة القدس المحلتة بجرّافة، ما تسبب في مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة العشرات من الركاب، ووقعت قبلها وبعدها حوادث مماثلة نفذها فلسطينيون وبعضها إسرائليون.
وظهرت أول واقعة دهس ذات طابع هجومي خارج الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في عام 2009 بمدينة آبلدورن في هولندا، الحادث الذي خلّف آنذاك خمسة قتلى و12 مصابًا، ثم في لندن سنة 2013، دهس شخصان من أصول نيجيرية جنديًا بريطانيًا قبل أن يطعناه حتى الموت، مبررين فعلتهم بعد ذلك بأنهما "ينتقمان من الجنود البريطانيين لأنهم يقتلون المسلمين".
تحول الدهس لوسيلة شائعة بين "الإرهابيين" عام 2014، بعد دعوة من قيادات داعش إلى استخدامه في حال عدم التمكن من الحصول على أسلحة
لكن لم يتحول الدهس بالشاحنات إلى سلاح شائع لدى المتطرفين الإسلاميين، إلا في سنة 2014 بعد رسالة صوتية لأبي محمد العدناني، الناطق باسم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قبل مقتله العام الماضي، يقول فيها مخاطبًا أنصاره في أنحاء العالم، "إذا لم تتمكن من الحصول على قنبلة لتفجيرها أو إطلاق النار، فبمجرد أن تجد نفسك وحيدًا مع كافر فرنسي أو أمريكي حطم جمجمته بحجر، أو اقتله بسكين، أو قم بتسميمه، أو اصدمه بسيارة"!
اقرأ/ي أيضًا: الدليل المختصر لفهم استراتيجية داعش الإعلامية
ومنذ ذلك الحين، توالت عمليات الدهس بشكل مكثف، ضربت مختلف المدن الأوروبية مخلفة مئات القتلى والجرحى، كان أسوأها هجوم نيس في تموز/يوليو 2016، عندما اقتحم رجل تونسي المولد بشاحنته، حشدًا من المحتفلين بالعيد الوطني في مدينة نيس الفرنسية، مخلفًا ما لا يقل عن 86 قتيلًا و400 جريحًا، وأيضا في نهاية نفس السنة، شهدت برلين هجومًا نفذه تونسي آخر يدعى أنيس العمري، بدهس متعمد لزوار سوق عيد الميلاد، مخلفًا وراءه 12 قتيلًا و 48 جريحًا.
لكن الواقعة الأخيرة لدهس بريطاني لعدد من المسلمين المصلين في مسجد بلندن، تُحيل إلى منعطف جديد في توظيف سلاح الدهس بالشاحنات، إذ بات أيضًا يستخدمه اليمينيون المتطرفون في أوروبا، كعمليات انتقامية إرهابية تستهدف المسلمين وتتم بنفس الطريقة التي يرتكب بها المتطرفون الإسلاميون عملياتهم الإرهابية بالعواصم الأوروبية، وهو ما اعتبره مراقبون ناقوس خطر يهدد السلم الاجتماعي بالقارة الأوروبية.
لماذا أصبح الدهس بالسيارة سلاحًا مفضلًا لدى المتطرفين؟
جرت العادة استخدام السيارات المفخخة وإطلاق الرصاص في العمليات الإرهابية، لكن بروز ظاهرة الدهس عن طريق السيارات، يؤكد على أن هذا السلاح بات مفضلًا لدى الجهات الراغبة في تنفيذ الاعتداءات.
وإحدى هذه الأسباب التي جعلت هذه الطريقة في القتل رائجة هي سهولتها، حيث من اليسير الحصول على سيارة، سواء كانت مملوكة للمهاجم أو مستأجرة أو حتى مسروقة، ثم قيادتها ببساطة صوب حشود المارة بالشارع، بعكس المفخخات والأحزمة الناسفة والأسلحة النارية، صعبة المنال والاستخدام، نتيجة الرقابة الشديدة على الأسلحة.
كما أن هذا السلاح يناسب الظاهرة الجديدة في العمليات الإرهابية، التي وصفتها صحيفة واشنطن بوست الأرميكية بـ"الكابوس الجديد"، الممثلة في ما يُعرف بـ"الذئاب المنفردة"، حيث أصبحت الهجمات تتخذ طابعًا فرديًّا، دون أن يكون لها علاقة بتنسيقٍ أو تخطيطٍ ما مع خلايا تابعة لتنظيم مُسلح ما، وينفذها الأفراد بشكل عشوائي بتمويل ذاتي من أجل تطلعات دينية أو سياسية أو اجتماعية جامحة، ومن ثمّة برزت الأدوات التقليدية كالسيارات والسكاكين مع هذا النهج في الاعتداءات.
سلاح الدهس يُناسب ظاهرة الإرهابيين ممن يسمون بـ"الذئاب المنفردة"، لسهولتها وقلة تكلفتها عن استخدام الأسلحة
ناهيك عن أن هذه الطريقة في تنفيذ الهجمات أظهرت جليًا على أرض الواقع قدرتها في تحقيق أكبر خسائر، بالرغم من أنها زهيدة التكلفة وسهلة الاستخدام، فعملية الدهس التي قام بها تونسي بواسطة شاحنته في مدينة نيس الفرنسية، تسببت وحدها في مصرع أكثر من 86 شخص وجرح المئات، الشيء الذي لم يكن سهلًا عمله حتى بالنسبة لخلية منظمة وممولة.
اقرأ/ي أيضًا: الذئاب المنفردة.. استراتيجية أمريكا الجديدة
هذا ما يضيف ثقلًا أكبر على كاهل الأجهزة الأمنية في الغرب، التي غدت تتعامل مع تحدٍّ أمني جديد أكثر صعوبة على الرغم من بساطته، إذ مع الهجمات المنفردة المعتمدة على أدوات عادية غير مثيرة للقلق في الاعتداء، يصبح توقع زمن الهجمات أو التنبؤ بمكان حدوثها أو معرفة الراغب في مباشرتها فضلًا عن الطريقة التي ستتم بها، أمرًا في غاية الصعوبة بالنسبة للسلطات الأمنية.
اقرأ/ي أيضًا: