هذه المادة مترجمة بتصرف عن أخرى منشورة في صحيفة الواشنطن بوست بعنوان: "كيف تحاول أدمغتنا التغلب على الحرارة- ولماذا تعد ضربات الحر خطيرة".
يشهد فصل الصيف لعامنا الحالي ارتفاعًا ملحوظًا في درجات الحرارة بالمقارنة مع السنين السابقة، ويترافق ذلك مع سوء الظروف المعيشية في بعض بلداننا العربية وأزمات الكهرباء المختلفة، فيتعذر على الناس استعمالها في تشغيل أجهزة التبريد الكهربائية، وبذلك يصبحون أكثر عرضة للإصابة ببعض الاضطرابات الصحية الخطيرة الناجمة عن الحر الشديد، وأبرزها ضربة الحرّ.
فمن المعلوم أن الدماغ البشري يبذل جهدًا كبيرًا لتنسيق درجة حرارة الجسم وتنظيمها، بيد أنّ ارتفاع درجات الحرارة مصحوبًا بالرطوبة يعرض الأفراد لخطر ضربات الحرّ، خاصة في أثناء ممارسة الأنشطة البدنية.
وفي هذا الصدد تقول ريبيكا ستيرنز، مديرة العمليات في معهد كوري سترينجر، وهو مؤسسة غير ربحية مقرها في جامعة كونيتيكت ومخصصة لدراسة حالات الإصابة بضربات الحرّ بين أوساط الرياضيين والحيلولة دون وقوعها: "حينما ترتفع درجة حرارة جسم الإنسان فإنها ترفع حرارة الخلايا، مما يفضي إلى موت الخلايا واختلال وظائفها الأساسية".
ويرى أورلاندو لايتانو، الأستاذ المساعد في علم وظائف الأعضاء التطبيقي وعلم حركات الجسم في جامعة فلوريدا، لزوم الإحاطة بالمخاطر المترتبة على الإصابة بضربة الحرّ وعدم الاستخفاف بها، فخطرها لا يقتصر على تسببها بمعدل وفيات مرتفع تقريبًا، وإنما يشمل كذلك بعض المضاعفات الصحية التي ربما يعاني منها الأفراد في مرحلة التعافي، ويقول لاتيانو: "نعتقد أن ضربات الحرّ مشابهة للارتجاج الدماغي من ناحية الخطورة"؛ فقد خلصت دراسة علمية أجراها لاتيانو وزملاؤه الباحثون، إلى تسبب ضربات الحرّ عند الفئران في تغيير الجينوم (المادة الوراثية)، فضلًا عن زيادة قابلية الإصابة بالأمراض المناعية والأمراض المرتبطة بالحرارة في المستقبل.
حينما ترتفع درجة حرارة جسم الإنسان فإنها ترفع حرارة الخلايا، مما يفضي إلى موت الخلايا واختلال وظائفها الأساسية.
وتشير دراسة أخرى أجريت حديثًا إلى أن قرابة 30% من البشر يتعرضون في وقتنا الراهن إلى درجات حرارة خطيرة وشديدة الارتفاع لمدة أقلها 20 يومًا في السنة الواحدة، ومن المحتمل أن ترتفع هذه النسبة لتبلغ 74% بحلول سنة 2100 إن استفحل التغير المناخي بشري المنشأ وتواصل بلا فتور.
ويقول لايتانو، الذي سبق أن شارك في وضع مراجعة علمية حديثة عن ضربات الحرّ: "أصبحت ضربات الحرّ في ظل الاحترار العالمي والتغير المناخي موضوعًا حامي الوطيس حرفيًا".
فهم ضربات الحرّ وأمراض الحرارة
تصيب الأمراض الناجمة عن الحرارة الناس جميعًا، وإن كان المسنون والصّغار عرضة لها أكثر من غيرهم، وتزيد عوامل أخرى من خطر حدوثها، مثل الرطوبة المرتفعة والنشاط البدني الشاق وإمضاء ليالٍ قائظة متوالية.
وتتفاوت أمراض الحرارة في شدتها وخطورتها، بدءًا من الإنهاك الحراري الخفيف وانتهاء بضربات الحرّ الخطيرة على أرواح المرضى. ومن المعروف أن الإنهاك الحراري أكثر شيوعًا بين الناس، إذ تتضمن أعراضه المختلفة الدوخة والتعب والغثيان والصداع، على أنه لا يسبب ارتفاعًا كبيرًا في درجة حرارة الجسم.
أما ضربة الحرّ فتعرف على أنها ارتفاع حرارة الجسم لأكثر من 40 أو 40.56 درجة مئوية، وهي إلى ذلك تؤدي إلى اختلال حادٍ في وظائف الجهاز العصبي المركزي، فيعاني الشخص من بعض الأعراض مثل الدوخة وفقدان الوعي والارتباك، وربما تلحق ضررًا بأعضاء متعددة أخرى. ولا بد من إدراك أمر جوهري، فالناس يتفاوتون في قوة احتمالهم للحرارة المرتفعة، لذلك ربما ينهار بعضهم عند تعرضهم لدرجات حرارة دون ذلك الحد، حسب كلام لايتانو.
ومن الصعوبات الأخرى التي يواجهها المرضى، التأثير السلبي لأمراض الحرارة على المحاكمة العقلية للمصاب، فلا يدرك خطورة وضعه.
كيف ينظم الدماغ درجة حرارة الجسم؟
لا تؤدي الخلايا في جسم الإنسان وظائفها أداءً سليمًا إلّا في نطاق ضيق من درجة الحرارة يتراوح بين 36.7-37.5 درجة مئوية عند الأفراد الأصحاء. أما درجات الحرارة الشديدة فتُتلف الخلايا وتضر الحمض النووي وتحلل البروتينات.
قرابة 30% من البشر يتعرضون في وقتنا الراهن إلى درجات حرارة خطيرة وشديدة الارتفاع لمدة أقلها 20 يومًا في السنة الواحدة، ومن المحتمل أن ترتفع هذه النسبة لتبلغ 74% بحلول سنة 2100 إن استفحل التغير المناخي بشري المنشأ وتواصل بلا فتور.
وفي هذا السياق تقول ستيرنز: "كلما عانى الشخص من ضربة حرّ، أصيب بمجموعة من العواقب الوخيمة التي تعرقل وظائف بعض أعضاء الجسم، وتلحق بها ضررًا كبيرًا".
ويبذل الجهاز العصبي المركزي جهدًا كبيرًا لتنسيق عملية التحكم بدرجة حرارة الجسم منعًا لأي أضرار؛ ففي جلد الإنسان وأعضائه الداخلية مستشعرات معروفة بالمستقبلات الحرارية، فهي مضبوطة وفق نطاقات مختلفة لدرجات الحرارة وترسل إشارات إلى مناطق قشرة الدماغ المسؤولة عن الإحساس، التي تتيح للإنسان إدراك الحرارة حوله والاستجابة لتغيراتها، كما يحصل مثلًا عند الابتعاد عن أشعة الشمس ودخول المنزل. ولدى الإنسان كذلك منظم حرارة داخلي في منطقة تحت المهاد في الدماغ، فهذا المنظم يستشعر درجة حرارة الجسم ثم يُنشّط الأجهزة الذاتية اللا إرادية حتى تباشر وظائف التبريد حينما تبلغ حرارة الجسم درجة معينة، وهذا يشمل وظائف التعرق وتمدد الأوعية الدموية.
وعلى العموم تكمن الوسيلة الأساسية لتبريد جسم الإنسان في إفراز العرق من الغدد العرقية؛ فتبخر العرق يؤدي إلى تبريد جلد الإنسان، وتشير ستيرنز إلى أن التبريد التبخيري يشكل نحو 80% من قدرة التبريد في جسم الإنسان في أثناء ممارسة التمارين. ومع ذلك يقول لايتانو: "التعرق سلاح ذو حدين، فهو أمر شديد الأهمية لدوره في تنظيم حرارة الجسم، بيد أنه يسبب أحيانًا جفاف الجسم".
وينشط منظم الحرارة الداخلي في دماغ الإنسان الجهاز العصبي الودي، فتتمدد الأوعية الدموية في الجلد، ويضاعف القلب جهده لتلبية حاجات الجسم المتزايدة، فيضخ الدم الدافئ من الداخل (الأعضاء الداخلية) إلى طبقة الجلد السطحية، وهناك يجب أن تنخفض حرارته إن لم يكن الهواء خارجًا شديد السخونة.
ومن هذا المنطلق يزداد احتمال وقوع ضربات الحرّ في الأيام الحارة والرطبة لأن ظروف الحرارة فيها تفوق قدرة الجسم الطبيعية على تنظيم الحرارة؛ فالتعرض للهواء الساخن يرفع حرارة الجلد عوضًا عن خفضها، وكلما زادت نسبة الرطوبة في الجو، تعذر تبخر العرق منه وبذلك لا يبرد الجسم.
أنواع ضربة الحرّ
لضربة الحرّ نوعان رئيسان يصيبان البشر هما: ضربة الحر الاعتيادية (غير الجهدية) وضربة الحرّ الجهدية.
يصاب الإنسان عادة بضربة الحرّ العادية جرّاء التعرض لحرارة مرتفعة من البيئة الخارجية، كما يحدث أحيانًا خلال موجات الحر، فهذا النوع يصيب غالبًا الصغار والمسنين ممن تقل قدرة أجسامهم على تنظيم درجات الحرارة الداخلية؛ فالغدد العرقية لا يكتمل نموها أحيانًا عند بعض الصغار، فلا تستطيع أجسامهم تنظيم الحرارة الداخلية على نحو فعال. أما المسنون فكلما كبروا عمرًا، تراجع إحساسهم بالعطش وتراجعت قدرتهم على تنظيم الحرارة الداخلية.
أما ضربة الحرّ الجهدية فتصيب الإنسان حينما يمارس بعض الأعمال الشاقة في طقس حار؛ فالحرارة المرتفعة تسخن عضلات الهيكل العظمي عند استهلاك الطاقة. وهكذا كلما زادت كثافة انقباض العضلات، زاد إنتاج الحرارة في الجسم، فترتفع درجة الحرارة الداخلية فضلًا عن حرارة البيئة المحيطة. وعلى العموم تصيب ضربة الحرّ الجهدية الأفراد الذين يمارسون نشاطات وأعمالًا شاقة، بيد أنها شائعة بين الكهول، لا سيما الرياضيين والعسكريين.
تقول ستيرنز: "لا تشيع ضربة الحرّ الجهدية بين الناس في حياتهم اليومية بعيدًا عن الأنشطة والرياضات التنافسية، فالناس على قدر من الذكاء يدفعهم إلى التوقف عن أي عمل شاق إذا أحسوا بالتعب قبل أن يصابوا بضربة الحر".
أما الأفراد في المجالات الرياضية والعسكرية فلديهم حافز لبذل جهود أكبر تتعدى قدرات التنظيم الحراري لديهم، فلا عجب أن ضربة الحر الجهدية هي السبب الرئيس الثالث للوفيات بين أوساط الرياضيين عند ممارسة أنشطتهم، فلا يسبقها إلا أمراض القلب والصدمات المباشرة في الرأس والرقبة.
ويبلغ معدل الوفيات جرّاء ضربة الحرّ الجهدية قرابة 27% حسب التقديرات، أما معدل الوفيات بفعل ضربة الحرّ العادية فيبلغ أحيانًا نسبة أعلى بكثير، ويعزى هذا الأمر إلى وقوعها غالبًا عند أفراد ضعفاء.
أضرار ضربة الحرّ على الدماغ
تلحق ضربات الحرّ أحيانًا ضررًا كبيرًا بدماغ المصاب؛ إذ تشير بيانات سابقة إلى حدوث أضرار طويلة الأمد في الوظائف العصبية والإدراكية لدى نسبة تتراوح بين 10% إلى 28% من المرضى الذين نجوا من ضربة الحرّ، وينطوي هذا الأمر تحديدًا على اختلال وظيفي في المخيخ، وهو الجزء المسؤول عن تنسيق حركة الجسم.
كذلك أبانت عمليات تصوير الدماغ- عقب شهور أو سنين من ضربة الحرّ- عن تلف خلايا المخيخ وأجزاء الدماغ الأخرى، مثل الحصين والدماغ المتوسط والمهاد، تقول ستيرنز: "لهذا الأمر عواقب وخيمة للأسف الشديد، فقلّة من يلحق بهم ضرر طويل الأمد جرّاء ضربة الحرّ وينجون بحياتهم، إذ ينتهي بهم الحال إلى الموت، أما الناجون فتلزمهم أحيانًا رعاية صحية تلازمهم طوال حيواتهم".
علاج ضربات الحرّ والوقاية منها
إذا كان الشخص مقبلًا على القيام بأنشطة شاقة في ظل ظروف الحر الشديد، فمن المستحسن أن يتقيد ببعض النصائح تجنبًا لإصابته بضربة حرّ؛ فعلى سبيل المثال ينبغي أن يحافظ على رطوبة جسمه على الدوام، وأن يتريث قليلًا في تنفيذ تلك الأنشطة حتى يتأقلم مع ظروف الحرارة المرتفعة، وهنا تقول ستيرنز: "ينبغي للشخص أن يقتصد في جهوده ويتدرج بها خلال الأيام العشر أو الخمسة عشر الأولى منذ قيامه بنشاط جديد في بيئة حارة، فهذه الخطوة تتيح للجسم وقتًا كافيًا للتأقلم مع الظروف البيئة".
ومن النصائح المفيدة التي يجب التقيد بها، الامتناع عن ممارسة الرياضة خارجًا دون رفقة، فضلًا عن الاطلاع على أعراض الإصابة بضربة الحرّ. ومن المستحسن دومًا تجنب التعرض للحرارة الشديدة خلال موجات الحر، واستخدام وسائل التبريد الحديثة مثل المكيف والمراوح الكهربائية. ولمّا كانت بعض بلداننا العربية تعاني من أزمة الكهرباء، فيستطيع السكان فيها غسل أبدانهم بالماء خلال أوقات تقنين الكهرباء.
وتنوه ستيرنز إلى أن الشعور بالتوعك والوهن والارتباك والهياج كلها علامات خطرة على الإصابة بضربة حر، وهذا يسري أيضًا على التعثر عند الحركة أو خوار القوى أو اختلال تناسق حركات الجسم، فهي أيضًا من العلامات الدالة على ضربة الحرّ.
وإذا اشتبه الشخص بإصابته بضربة حرّ، فيوصيه الخبراء بضرورة تبريد جسمه على الفور حتى قبل حصوله على تشخيص دقيق لحالته، ويقول لايتانو: "ثمة صلة وثيقة بين سرعة تبريد المصاب وبين العواقب اللاحقة الناجمة عن ضربة الحرّ". لذلك، يجب في حالات كهذه وضع كمادات الثلج الباردة على الرقبة أو الفخذ أو الأطراف، أو غمر الجسم بالماء البارد، فهو العلاج الأول لضربات الحرّ. وترى ستيرنز أن زيادة المعرفة والوعي بضربات الحرّ وتقديم العلاجات السريعة كفيل "بتراجع خطر الموت جراءها".