اعتمد الباحث جابر العبيد في تحضير مادة دراسته "كيف ترسم السينما الصرية ملامح الرجل في الجزيرة العربية" على ما يزيد عن 40 فيلمًا مصريًا على مدى خمسين عامًا. وتحلل الورقة البحثية صورة الخليجي من خلال الرواسب التي طغت بين الطرفين المصري والخليجي والتي كان لها الدور البارز في المخيال السينمائي المصري، كما وتتأمل الدراسة في العلاقة المرتبكة والمعقدة بين الطرفين.
كان ظهور الشخصية الخليجية في الأفلام المصرية يحمل دلالات ظاهرة وأخرى إيحائية، تكشف الغطاء عن الموقف السينمائي تجاه الشخصية الخليجية
تسعى هذه الورقة إلى سبر أغوار الصورة الخليجية في السينما المصرية وتحديد أطرها وفق المراحل الزمنية المتعاقبة. وبالنظر إلى هذه الحقب المتوالية نجد أن الصورة الخليجية مرت بأطوار متباينة وفقًا للعلاقات بين الطرفين. ومن خلال نظرة تاريخية نجد أن تلك العلاقة سارت على مرحلتين إنقسمت معها صورة الخليجي في السينما المصرية.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم الثمن.. استغلال رخيص للاجئين السوريين في مصر
المرحلة الأولى: صورة الخليجي ما قبل الثمانينيات كانت انعكاسًا للحركة الثقافية والعلمية بين الطرفين، حيث كان لمصر تأثير في بناء المجتمعات الخليجية وتطوير التعليم فيها عبر إرسال المعلمين المصريين إلى الخليج، وفي المقابل ابتعاث طلاب خليجيين إلى مصر للدراسة فيها.
المرحلة الثانية: صورة الخليجي ما بعد الثمانينيات والتي كانت انعكاسًا لحركة العمال والسياح من خلال انتقال العمالة المصرية إلى الخليج وانتقال الخليجيين إلى مصر للسياحة.
لا ينظر الباحث في هذه الورقة إلى الأدوات السينمائية وإنما إلى النص السينمائي باعتباره نصًا أدبيًا وإلى الفكرة التي يراد إيصالها. وقد عمل العبيد على توثيق مقاطع من أفلام سينمائية مصرية عرضت صورة الخليجي ظاهريًا ووظفتها توظيفًا سلبيًا حسب ما يقول في دراسته.
فما هي الأسباب الحقيقية التي أثرت في رسم صورة الخليجي في السينما المصرية؟ وما هي الدوافع النفسية التي أثرت في رسمها؟ وهل استطاعت السينما المصرية بحق أن ترسم ملامح الرجل الخليجي بإنصاف؟
لحم رخيص
كان ظهور الشخصية الخليجية في الأفلام المصرية يحمل دلالات ظاهرة وأخرى إيحائية، تكشف الغطاء عن الموقف السينمائي تجاه الشخصية الخليجية. ففي عام 1995 عرض فيلم "لحم رخيص" وتظهر الشخصية الخليجية المتأثرة بعوامل بيئتها الاقتصادية والاجتماعية والذي يمثل نظرة السينما المصرية اتجاهها. وصولًا إلى فيلم "صرخة نملة" عام 2011، وفيلم "صاحب صاحبة" نجد أن المال الخليجي يقوم بتحريك الأحداث، وغيرها من الأفلام المصرية الممتدة بين (1995-2011) حيث توالت الأعمال المصرية في تصوير وتجسيد الشخصية الخليجية.
صورت السينما المصرية الرجل الخليجي بالشيطاني والشهواني العابث الذي لا يرى في المرأة سوى جسدها ليشكل شهوته عليها
تم تصوير الرجل الخليجي بالشيطاني والشهواني العابث الذي لا يرى في المرأة سوى جسدها ليشكل شهوته عليها دون الالتفات إلى قلبها المفعم بالعاطفة الأنثوية الصادقة وجوهرها الإنساني النبيل، كما أظهر الفيلم دناءة الرجل الخليجي في استغلاله للمرأة التي أنهكتها حاجات الحياة.
اقرأ/ي أيضًا: القضية الفلسطينية ووعي السينما المصرية
عنوان الفيلم "لحم رخيص" يحدّد للمشاهد مدى مفهوم الإسفاف من خلال تجريد المرأة عن إنسانيتها والنظر إليها بوصفها جسدًا رخيصًا، مما يحمل دلالات إيحائية في الوعي الجنسي المتوارث بين الطرفين.
يظهر الخليجي الشغوف بجسد المرأة والمولع بالسكر والمجون والحياة الهزلية كما في فيلم "على جنب يا أسطى"، وفيلم "الريس عمر حرب" الذي تدور أحداثه في صالة قمار، وكذلك في "كباريه" و"الكازينو" وهي أفلام تدور أحداثها في أماكن للهو والعربدة يتواجد فيها الخليجي دومًا كما تشير هذه الأفلام.
عندليب الدقي
يمكن أن نستشف صورة الخليجي في السينما المصرية من خلال فيلم "عندليب الدقي" عام 2007، فقد حاول هذا الفيلم أن ينقل التجربة الثقافية والإنسانية بين الفرد المصري والفرد الخليجي بالمقارنة المباشرة بين توأمين. يعيش الأول في القاهرة والثاني في الخليج، وقد أدى الدورين ممثل واحد هو محمد هنيدي، ولعل توحيد الجسد في هاتين الشخصيتين يشي بمدى أزمة الوعي الثقافي والإنساني بين الطرفين حيث التشابه في الشكل الخارجي، إلا أن التباين يكون في التكوين الداخلي والجوهر الإنساني المتمثل بالقيم والمبادئ والفضيلة.
ينقل هذا الفيلم التجربة الحياتية بين مصري وخليجي مبديًا عبثية الرجل الخليجي الذي يتكئ على قيم ظاهرية هشة، وعلى عكس الرجل المصري الذي يتكئ على قيم إنسانية راسخة ومثل عليا نبيلة. ويرسم هذا العمل مدى التباين بين الصورتين على وجه المقارنة فإن كان ثمة تشابه خارجي إلا أن القيم الداخلية تختلف، وفي صدد المقارنة يلحظ الباحث التسفيه لشخصية الخليجي مقابل الشخصية المصرية.
يحلل الدكتور جابر العبيد التهكم بأبرز ما توارثته الأجيال في الجزيرة العربية كالصيد والشعر اللذان يعدان من أبرز صفات الشعوب الخليجية وذلك بصورة واضحة وجلية. فالبطل فواز وهو رجل خليجي يجهل أدوات الصيد ولا يعي منها شيئًا، فقام الخدم بتخدير الغزال ليتمكن فواز من اصطياده، ولكنه لم يتمكن من ذلك. إن هذا المشهد الاستهلالي يكشف عن حال الشخصية الخليجية الثرية التي لا تعي من تاريخها شيئًا ولا يمكنها جلب أي شيء سوى بالمال دون جهد أو وعي.
يمكن أن نستشف صورة الخليجي في السينما المصرية من خلال فيلم "عندليب الدقي" عام 2007
وفي مشهد تهكمي آخر يحتشد موظفو فواز في شركته لتأبين زوجته المتوفية منذ 5 سنوات، ويبدأ فواز بإلقاء قصيدة رثائية وإجبار موظفيه على ترديد أبيات القصيدة خلفه. ومن خلال هذا التأبين تتكشف سذاجة الرجل الخليجي حتى في مفاهيم الحياة الجوهرية كالعزاء وفقدان الأحبة وغيرها، حيث يظهر المشهد جهل الخليجي ووضعه في درجة متدنية من الذكاء وبمستوى ثقافي منخفض. ومن ثم يثار التساؤل حول استحقاق الخليجي لهذا المال مقارنة بقدراته الفكرية، إذ أن هوية الرجل الخليجي مشتتة وضائعة ويحاول لملمتها بالمال.
وفي مشهد آخر نجد أن الأب الخليجي لا يراعي ابنه بحاجياته الأولية، وهو غير مبال وغارق في أمواله وشركاته وحياته الخاصة، بينما نجد الأب المصري يهتم بابنه ويحضر حفل تخرجه ويقدم له الكثير من الهدايا.
صرخة نملة
أما في فيلم "صرخة نملة"، فيجد الباحث أن مجريات الفيلم تسير على نحو الإسفاف المبالغ فيه، وأحداث الفيلم تكشف الغطاء عن معاناة الشعب المصري في توفير حاجياته الأساسية وحقوقه المشروعة، ففي الوقت الذي يسعى فيه الشعب المصري في مساع شريفة لرفع الظلم كتوفير المياه والكهرباء والمعيشة، نجد في المقابل يظهر الرجل الخليجي المحاط بالنساء في جو عامر بالشرب واللهو، مما يحدد الفرق الشاسع بين الهم المصري الحقيقي الهادف وبين الهم الخليجي السطحي العابث.
اقرأ/ي أيضًا: الأمركة.. آفة السينما المصرية
يستغل الرجل الخليجي حاجة المرأة المصرية لتفريغ شهواته ثم يعذبها. ففي "صرخة نملة" تظهر النظرة المزدرية للمراة التي ينظر بها الرجل الخليجي، باعتبارها خادمة ليس لها سوى تلبية أوامره دون اعتبار لحقوقها.
ونجد أن الخليجي يمثل دور الذئب البشري حيث أوقع المرأة في شراك غدره وألبسها تهمة هي منها براء حتى تقع بين يديه ضعيف مكسورة الجناح، ومن هنا تأتي لحظة الابتزاز بأقبح صورة، وقد قال الرجل الخليجي ذلك في المشهد: "السجن وراء الباب والسعادة تحت السرير". وتتكرر المشاهد التي تصور دناءة الخليجي.
طير إنت
لعب المال دورًا أساسيًا في تشكيل ملامح هوية الشخصية الخليجية وتجريدها، وقد تم تصوير زي الخليجي المبتذل والساعي وراء الشهوات المنحرفة والنزوات. ويظهر الرجل الخليجي بعيدًا عن سياق الحوار ومجريات الحبكة، وكأن الكاميرا إلتقطته صدفة يترنح من من هنا إلى هناك.
وتزداد صورة الرجل الخليجي تأزمًا حينما تجرد من كل معاني الحياة وتختزل في أوراق نقدية كما في فيلم "طير إنت" حيث نجد أن البطل يسعى سعيًا حثيثًا لينال فتاة أحلامه "ليلى"، وكان يساعده في ذلك عفريت يلبي كل أوامره لتكتمل صفاته في نظر محبوبته، وقد وعد المارد أن يجعل من البطل "بهيج" شخصية تغري حبيبته، فتارة يجعله زعيمًا وتارة فارسًا، ومع كل هذه المحاولات المتكررة يفشل البطل في نيل رضى محبوبته.
تزداد صورة الرجل الخليجي تأزمًا حينما تجرد من كل معاني الحياة وتختزل في أوراق نقدية كما في فيلم "طير إنت"
في المحاولة الأخيرة يطلب البطل من المارد أن يجعل منه رجلًا ثريًا، ولكن المارد المصري لم يرتسم في ذهنه سوى صورة رجل خليجي وقام بتحويله إلى رجل خليجي ثري. وكان هذا التحول من الشخصية المصرية إلى الشخصية الخليجية هو ما حال بينه وبين معشوقته ليلى كليًا بالرغم من ثراءه الفاحش، فقد أضحت شخصية بهيج عابثة مبذرة لا تقيم وزنًا للحياة إلا بمكيال المال، ولهذا السبب فشل البطل في نيل محبوبته.
اقرأ/ي أيضًا: السينما المصرية.. شريط يروي حكاية قرن
ظهرت الشخصية الخليجية في أفلام متنوعة منها كوميدية ومنها درامية، وشكلت صورة نمطية للرجل الخليجي في السينما المصرية بفعل تكرار الفكرة والإلحاح عليها مما أدى إلى إلصاق الصورة في أذهان الجمهور، كما أنها تعبر عن إنطباع المنتجين، وتلغي الجوانب المشرقة لدى الآخر وتشوه صورته وتحصره في طبقة واحدة. وهكذا تمسكت الذهنية المصرية بالصورة التاريخية القديمة متجاهلة الصورة المتحولة الحديثة وعرضتها في سينمائها.
اقرأ/ي أيضًا:
سينما الممثل أم سينما المخرج.. صراع طويل خاضته السينما المصرية
القضية الفلسطينية في السينما المصرية..سؤال التطبيع والالتزام