المشهد الافتتاحي من الفيلم بمثابة العتبة الأولى التي يدخلنا من خلالها المخرج إلى عوالمه المرئية، فاتحة قد تثير الفضول أو تجعل من مشاهدة الفيلم أمرًا غير ممكن، كثيرة هي المشاهد الافتتاحية التي يمكن ذكرها من تلك المحفوظة في أذهاننا كدلائل على حرفية الصنعة عند بعض المخرجين ووثائق بصرية على براعتهم.
من منا لم يتأثر بالمشهد الافتتاحي من فيلم فرانسيس فورد كوبولا، الذي أطل على العالم بعد شقاء صاحبه، فيلم القيامة الآن، مشهد لغابة في فيتنام تقصف بالنابالم على أنغام موسيقى الفرقة الشهيرة The Doors، حيث يطالعنا وجه المقاتل الأمريكي الشاب القلق الذي يختزن قلق العالم في تلك الفترة.
هذا الفضول الفاتن يعرفه أيضًا المخرج ستانلي كوبرك في فاتحة فيلمه أوديسا الفضاء الذي ضمّنه رؤيته المستقبلية لشكل العالم حيث يرمي بقطعة عضم إلى الفضاء ويتركنا في صدمة من أثر ذلك المشهد.
كثيرة هي الأمثلة فإرث السينما العالمية ممتلئ بالمشاهد الافتتاحية التي تؤسس لمغامرة فيلمية تؤكد على براعة صانعها.
الافتتاحية قد تكون حوارًا أو مونولوجًا داخليًّا لإحدى الشخصيات، أو صورة متحركة، أو حتى حدثًا أساسيًا يمهد للتعرف على ماذا سيجري.
يختزن المشهد الافتتاحي طاقة الفيلم التي تدفع بالمشاهد إلى الأمام في الاستمرار بالمتابعة، قد يكون بطل مشهد الافتتاحية شخصية أو مكان، غرض أو صورة تحمل دلالة، وقد يكون تكثيفًا لحالة ما تشكل جوهرًا أساسيًا في فهم الفيلم، أو توصيفًا يحمل علامات ودلالات للدخول إلى الفيلم. كل الخيارات متاحة أمام المخرج لتكوين افتتاحية فيلمه، فهو أشبه بمساحة حرة ومفتوحة يشكلها المخرج كما يشاء، ولكنها مساحة خطرة يجب الانتباه أثناء اللعب فيها فهي شيفرة تحمل مفاتيح قد تعطي الحياة للفيلم أو تقتله عند المشاهد.
في استعادة بسيطة لأهم مشاهد الافتتاح من بعض الأفلام الكلاسيكية، خصصنا بالذكر خمسة من أفضل الافتتاحيات وأكثرها شهرةً، على الرغم من أن الحديث عن المشاهد الافتتاحية لا يمكن أن تحصره في سطور قليلة أو قائمة قصيرة، إلاّ أن الافتتاحيات الخمس المذكورة في القائمة متنوعة وتعتبر من الأمثلة المعروفة والأكثر جذبًا للمشاهد.
1- باريس- تكساس: رجل تائه في الغرب
ماذا يفعل رجل وحيد يرتدي بدلة رسمية وقبعة حمراء في صحراء الغرب الأمريكي؟ هل هذا فيلم ويسترين حداثي؟ أم فيلم عن كيف نعيش في الغرب؟ ما هذا اللغز الذي يفتن المشاهد منذ الثواني الأولى في افتتاحية فيلم باريس-تكساس للمخرج الألماني فيم فيندرز ويشد المشاهد باتجاه ذلك المكان، والذي يعتبر واحد من الأماكن الأصيلة في تراث السينما الأمريكية، ولكن صورة الغرب الأمريكي في هذا الفيلم ليس من شأنها استعراض تاريخ أحد أبطال ذلك المكان، والكشف عن حكايته الفريدة، بل كانت بغرض استعراض حالة ترافيس أندرسون المثيرة للاستغراب، والتي تدفع بالمشاهد لرسم الاحتمالات، ماذا سيجري في الفيلم الذي افتتحته شخصية منهكة يتبدى على ملامحها التعب الشديد والحزن، في عينيها توقٌ لأمرٍ ما، فنفكر كيف سيخرج من هذا المكان الغريب.
2- بيرسونا: افتتاحية بصرية حركية
افتتاحية الفيلم السويدي الشهير بيرسونا للمخرج انغمار بيرغمان تأتي من صلب العمل السينمائي، لقطات سريعة ومتحركة لأغراض الفيلم، صوت بكرة الفيلم تدور وكأنها إعلان صريح عن فيلم داخل فيلم، مشاهد من أفلام كوميدية قديمة صامتة، مشهد من فيلم تحريك، مشاهد متفرقة قد تبدو للوهلة الأولى غير مترابطة، ولكنها متداخلة، كأنها تدور في عقل إنسان ما، من دون حكاية واضحة نلاحظ حالات مختلفة تكوّن انطباعات مختلفة وتؤسس لمشاهدة تحتاج لتأويل وربط العناصر السنيمائية والحكائية المعروضة في أول دقيقتين من الفيلم. ريثما يخرج المشهد الافتتاحي من الصور وينتقل إلى البشر في مكان لوضع الجثث فيه طفل لم يعد قادر على النوم فيقرر أن يقرأ في رواية الكاتب الروسي ميخائيل ليرمنتوف "بطل من هذا الزمان"، ومن ثم يعرض لنا بيرغمان الشخصيات ولكن على طريقة الفيلم ومزاجه.
3 - انفصال نادر وسيمين: افتتاحية حكائية كاشفة بامتياز
في افتتاح الفيلم الإيراني انفصال نادر عن سيمين للمخرج الإيراني ذائع الصيت أصغر فرهادي، نكون أمام الإشكاليّة التي يطرحها الفيلم مباشرةً، وكأن الأبطال ينتظروننا ليبدأ الكلام، ولذلك يضع المخرج مشاهدي فيلمه في موقع القاضي الذي عليه أن يبت في أمر قضية الطلاق هذه، كأنه يسلمنا مفاتيح الحكاية ويطلب منا الدخول إلى عوالمه عارفين ومدركين ما سنراه، يدعونا للفصل في قضية الطلاق تلك غير المحسومة، ويأخذنا معه خلال الفيلم لنرى تبعات ذلك الطلاق الذي لم يبت بأمره حتى بعد انتهاء الفيلم. هذا النوع من المشاهد الافتتاحية التي تقوم على إظهار وكشف حكاية الفيلم، تعتمد على نص مكتوب ومحبوك بشكلٍ ممتاز من شأنه أن يجذب الانتباه ويكشف عن الحكاية. يذكر بأن سيناريو الفيلم مكتوب من قبل المخرج ذاته، وهو المعروف بكتابته لسيناريوهات أفلامه التي تشكل علامة فارقة في تاريخ السينما الإيرانية وإنتاجاتها المعاصرة.
4- ثمانية ونصف: عن قلق الفنان وفرادة شخصيته
ربما من أعاد مشاهدة فيلم ثمانية ونصف للمخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني سيكتشف لماذا كان هذا هو شكل افتتاح فيلمه الأشهر، وما هي خصوصية هذه الافتتاحية، وما الذي يجعلها واحدة من أجمل افتتاحيات الأفلام الكلاسيكية. لماذا اختار فيليني لبطله أن يكون عالقًا في زحامٍ مروري داخل نفق، ولماذا تطالعه هذه العيون المعلقة والوجوه الحيادية، وكأنها صورٌ ثابتة. في المشهد الافتتاحي لفيلم ثمانية ونصف التفاصيل الحيّة قليلة وتكاد تكون معدودة وكأنها أشبه بكابوس يعرض علينا وتتحرك فيه الشخصية الأساسية بثقل إثر شعورها بالضيق، مستوحيًا تلك الحركة الثقيلة من الأحلام، وتتركنا متسائلين، أهذا واقع أم خيال؟ لهذه الحالات الشعورية توظيف فني أراد منه المخرج نقل حالة الضيق والقلق التي تعاني منها الروح الشغوفة.
5 -هيروشيما حبيبتي: لم نرَ شيئًا من هيروشيما بعد
يعدّ فيلم هيروشيما حبيبتي واحدًا من أهم أفلام الموجة الجديدة الفرنسية للمخرج آلان رينيه، الذي انطلق بعد أعوام قليلة على القنبلة الذريّة بالبحث عن آثار الحياة في ذلك المكان. يفتتح رينيه فيلمه الروائي ذا الطابع الوثائقي على مشهد لحبيبين يتعانقان وينثر فوقهما الغبار الذريّ مشكلًا غرضًا أساسيًا في قراءة المشهد الافتتاحي، حيث الحياة ما زالت مستمرة هناك ولكن مع أثرًا واضحًا للموت، دقائق قليلة يعرض من خلالها المخرج مستشفى هيروشيما ومرضاها، وصورٌ تظهر أشخاص بأجساد محروقة وبقايا حطام من المكان. يحمل الفيلم الكثير من الأسئلة والقضايا المكثفة في أول دقائق منه. افتتاحية فيلم "هيروشيما حبيبتي" أشبه ما تكون بقصيدة بصرية قدمها آلان رينيه الذي يهوى المونتاج، غير منفصلة عن روح الفيلم وما يريد قوله.
اقرأ/ي أيضًا: