قبل أن أبدأ، أريد التأكيد على نقطة: السينما ليست قصّة ولا حكاية فقط، وليست صورة فقط، وليست موسيقى في الخلفيّة فقط، السينما مزيج خاص جدًا بين كل هؤلاء، منذ ولدت السينما وهي تحاول دومًا خلق ما يسمى بالمعايشة، منذ هروب الجمهور من الصالة مع اقتراب القطار من الشاشة في فيلم الأخوين لوميير، في رأيي الشخصي هذا هو ذروة ما في السينما، أن تجلس في قاعة السينما لساعتين منفصلًا عن العالم كليًا وتعيش في عالم آخر.
شاهدت لداميان تشازيل باكورة أعماله (Whiplash) قبل عامين، والحقيقة لم أحبه مطلقًا، ورغم الاكتساح النقدي لفيلمه الجديد إلا أنني لم أتوقع منه الكثير، وتوقعت خيبة أمل كفيلمه السابق، والحقيقة أن تشازيل صدمني للدرجة التي لم أستطع أن أتجاوزها إلى الآن.
السينما ليست قصّة ولا حكاية فقط، وليست صورة فقط، وليست موسيقى في الخلفيّة فقط، السينما مزيج خاص جدًا بين كل هؤلاء
على الورق ثيمة الفيلم بسيطة جدًا، شاب يقابل فتاة ويقعان في الحب وتقابلهما المشاكل حتى ينتهي الفيلم، لكن تشازيل في بنائه للنص لا يغفل التفاصيل، تكتسب حكايته الرومانسية عمقها من ملامستها لقشور الحب وتساؤلها عن مقدار تأثير تلك القشور عندما يختبر الحب ذاته.
أريد أن أوضح أني أجد نفسي أتساءل كيف فكر تشازيل في هذا الخليط الذي قدمه؟ هل فكر في البداية في تقديم قصة رومانسية كلاسيكية ومن ثم تطعيمها بتلك التفاصيل؟ أم فكر في فيلم عن (الجاز) كسابقه وبعد ذلك أضاف القصة الرومانسية؟ أم أنه أراد التعبير عن نفسه وكيفية وصوله إلى هوليوود قبل كل شيء؟ لكني في النهاية أستقر إلى أنه فعلها وهذا هو المهم.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم تيترو (2009): الأبناء والأب في أفلام كوبولا
في الحقيقة أنا لا أبالغ مطلقًا لو قلت إن هذا النص واحد من أعظم النصوص التي عرضتها الشاشة في بساطتها، وأذكاها وأكثرها مرحًا -مع لمسة تراجيدية محببة- وأجودها بناءً وأقربها حتى إلى النفس، عظمته الأساسية في رأيي الشخصي أنه انسيابي جدًا.
في مشاهداتي الخمسة للفيلم، لم ينحرف إيقاعه مرة على رغم عنف تحولاته في الثلث الأخير خصوصًا، عندما أتأمل في الطريقة التي ينتهجها النص في الحكاية أقف مندهشًا. ببساطة، الفيلم يحكي قصة تقليدية عن شاب يقابل فتاة، لكن يمنح نصه محاور عدة ولا يميل لأي منها، تشازيل يصنع مزيجًا ممتازًا من التراجيديا والدراما والكوميديا والرومانسية.
في مشهد الافتتاحيّة، يقدم تشازيل استعراضًا راقصًا لمجموعة من الناس الهاربين من الزحام يرقصون على سياراتهم، بعدها يقدم اللقاء العابر الأول بين بطلي الفيلم ميا وسيباستيان، ميا فتاة تعمل في مقهى مشهور، وتقدم على تجارب الأداء في لوس أنجلوس منذ ست سنوات، لكنها تعاني الفشل دومًا رغم موهبتها الواضحة. على الجانب الآخر هناك سيباستيان، عازف البيانو الذي يعشق موسيقى (الجاز) لكنه يعمل في المطاعم والنوادي ويحلم بأن يفتتح ناديه الخاص يومًا ما.
في فيلم لالا لاند يصنع تشازيل مزيجًا ممتازًا من التراجيديا والدراما والكوميديا والرومانسية
في مشهد اللقاء الثاني -العابر أيضًا- بينهما، تُعجب ميا بعزف سيباستيان وتذهب لتخبره لكنه يتجاوزها بعدما طرده مدير المطعم الذي كان يعمل فيه، بعد ذلك يكون اللقاء الحقيقي بينهما، وفي رأيي الشخصي أنه واحد من أجمل اللقاءات الأولى بين بطلي الفيلم، سيباستيان يتم تقديمه من بداية الفيلم على أنه شاب طموح يريد افتتاح ناديه الخاص لأنه يحب موسيقى الجاز، ولذلك لا يلتفت لأي شيء آخر من الممكن أن يجعله يحيد عما يريد، لكنه حين يقابل ميا يتحرك بداخله شيء ما، تشازيل لا يفسر، يعلم جيدًا أن الوقوع في الحب بحد ذاته غير مبرر ولا يمكن تفسيره.
وعلى الجانب الآخر هناك ميا، التي تحلم بأن تصبح ممثلة في هوليوود تعجب بعزف سيباستيان، وحين تخبره أنها لا تحب الجاز ويتحدث معها عن شغفه بهذا النوع من الموسيقى، تحب فيه هذا الشغف، وتحب الجاز لأنه يحبه.
في أحد مشاهد الفيلم يسألها سيب عن صديقها جريج، لكنها تخبره بأنها تقابله منذ شهر بشكل غير مهتم، هذا يفسر أن ميا تقابل جريج لمجرد ملء الفراغ في حياتها، وأكد ذلك الحل البصري في أول ظهور لجريج في الفيلم في المرآة، مما يبين مدى هامشيته في حياتها.
اقرأ/ي أيضًا: ما الذي تكذب هوليوود علينا بشأنه؟
بعد ذلك يذهب ميا وسيب إلى السينما لمشاهدة تحفة نيكولاس راي (ثائر بلا سبب Rebel Without a Cause)، بعدها يذهبان إلى قبة لوس أنجلوس ويقدم تشازيل مشهدًا خياليًا غاية في الرومانسية، تشازيل هنا لا يحيي فيلم راي فقط، لكنه يحلق بعيدًا. ففي فيلم راي يقف دين ونتالي وود أمام القبة وينظران بسخط رغبة في الثورة، لكن في لالا لاند، يطير ميا وسيب ويرقصان معًا في السماء.
بعد ذلك، يستمع سيب إلى مكالمة ميا مع والدتها، ميا تخبر والدتها بأنه طموح لكنه لا يمتلك مصدر رزق ثابت، يشعر سيب بالمسؤولية تجاه الحب الذي يكنه لها، فيقرر أن ينضم لصديقه السابق كيث في فرقة موسيقية جديدة، على رغم قلقه من توجهات كيث.
بعد نجاح الفرقة، يبتعد ميا وسيب لفترة بحكم الجولات التي يقوم بها مع الفرقة، وفي أحد أهم مشاهد الفيلم يقوم سيب بمفاجأة ميا، ويذهب إلى المنزل، وأثناء ذلك تسأله ميا عما ينوي فعله، ميا لا يعجبها مستقبل سيب، ولا يعجبها تخليه عن طموحه، ويظهر ذلك من تراجعها وتعبيرات وجهها المستنكرة أثناء الحفلة الأولى لفرقته الجديدة، وفي نفس الوقت سيب يعلم جيدًا أنه لن يحظَى بمثل هذا المال في مكان آخر، فهو طموح، لكنه يخاف من المغامرة بينما ميا لا تخشاها.
هذا الخط الفاصل بينهما هو الذي يبدأ المشاكل، في نهاية المشهد نستمع إلى صفارة تنذر باحتراق كعكة داخل الفرن، وهذا أحد الحلول التي يقدمها تشازيل في الحكاية، يخبرنا أن العلاقة مهددة بالانتهاء بصفارة إنذار فقط!
بعد ذلك يأتي عرض مسرحية ميا والتي يتأخر عليها سيب لانشغاله مع فرقته، ويكون هذا الموقف -مع فشل المسرحية- هو الضربة التي تنهي كل شيء، ميا ترحل إلى بلدتها، وتخبر سيب أن كل شيء انتهى.
بعد ذلك، يخبر أحدهم سيب عبر الهاتف أن إيمي براندت شاهدت مسرحية ميا وتريد ضمها لفرقتها، فيذهب إلى بلدتها ويخبرها، لتقدم على تجربة الأداء وتنجح، وفي أحد مفاصل الفيلم المهمة، يخبر سيب فتاته بأن كلًا منهما له طريقه الخاص، هي ستصبح ممثلة مشهورة وهو سيفتتح ناديه الخاص مع الوقت. هذا النوع من الافتراق والتصالح، في رأيي مناسب جدًا لكل منهما وتقدمه المهني .
في نهاية الفيلم، وبعد خمس سنوات، تذهب ميا -بعد أن أصبحت ممثلة مشهورة- وزوجها إلى نادِي جاز بالصدفة، يتضح أن مالكه هو سيب نفسه، الذي يرى ميا ويستعيد كل منهما ما حدث منذ خمس سنوات، ويجلس سيب على البيانو ويعزف المقطوعة التي ربطت بينهما طوال الفيلم.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الأبرياء".. صناديق الأديرة البولندية السوداء
ثم تحيط بكل منهما هالة ويبدأ المشهد التخيلي الأخير الذي يعتبره الكثيرون أعظم ما قدمه الفيلم، المشهد هُنا لا يقدم قصة بديلة أو جدلية (ماذا لو؟)، هو يقدم خيال كل منهما في الشكل الذي ستصبح عليه الحياة التي تمناها كل منهما.
يسأل الزوج ميا إذا ما تريد أن تبقى لتستمع إلى مقطوعة أخرى فتخبره أنهما يجب أن يذهبا لأن الحياة ستستمر، ينظر سيب إلى ميا في النهاية ويومئ لها .. إنها الحياة.
إخراجيًا يتوهج تشازيل، هذا الرجل (لعّيب) حقًا، يقدم لنا لوس أنجلوس رائقة جدًا ومليئة بالموسيقى والرقصات. وبعيدًا عن شخصية المكان، يقدم الرجل تحية غير اعتيادية لكلاسيكيات السينما، سواء في الحكاية نفسها أو في الثيمات البصرية، مثلًا تأثره بحكاية كازابلانكا والربط بين أغنية As Time Goes By وبين مقطوعة البيانو في لالا لاند، في التفاصيل البصرية التي يتأثر فيها بأفلام مثل (Singing in the Rain أو les Demoiselles de Rochefort أو West Side Story أو Shall We Dance أو The Band Wagon أو Moulin Rouge أو The Red Balloon أو Funny Face أو Broadway Melody of 1940).
وبعيدًا عن تأثره بالكلاسيكيات، فهو بصريًا يخدم الحكاية أيضًا، مثلًا في مشهد هجر ميا لجريج وذهابها إلى سيب، تبتعد الكاميرا عنها، وتظهر بعض الأوراق الساقطة من الشجر، في إشارة واضحة للنهاية التراجيدية التي تذهب إليها العلاقة.
من أكثر ما أعجبني في الفيلم، هو أنه على رغم تحيته الواضحة للكلاسيكيات، إلا أنه يحتفظ بروح واضحة تخصه، وموسيقى الفيلم تساعد جدًا في بناء هذه الروح، موسيقى العمل هنا استثنائية للغاية، تشعر بها ككائن حي يتجوّل في الفيلم ويظهر في كل لحظاته المهمة، ويمكن اعتبار أنها هي الشخصية الثالثة في الفيلم التي تنمو وتتطور وتتقدم معنا في الأحداث.
اقرأ/ي أيضًا: كل ما تريد معرفته عن ترشيحات أوسكار 2017
وعلى صعيد آخر، هناك مباراة أدائية ممتازة بين إيما ستون ورايان جوسلينج، هناك توافق كبير بين الشخصيتين في الفيلم، لكن تتفوق إيما على ريان خصوصًا وأن مساحتها في إظهار الانفعالات أكبر.
فيلم لالا لاند ليس عن الخيانة والوفاء وتداخلهما، هذا فيلم عن ثنائية (الحب/الطموح) وعن التأثير العظيم للحب بمعناه البسيط
وكعادتي مع الأفلام المفضلة، هناك لحظات لا أنساها، أكثرها التصاقًا بالذاكرة هو مشهد غناء City of Stars المشترك بين ميا وسيب، أو تتابع النهاية الأخير، إيماءة سيب لميا في النهاية، مقطوعة البيانو التي لم تفارقه، مشهد الافتتاحية الرائع، غناؤهما المشترك لأغنية Lovely Night وطبعًا كل اللحظات التي يحيي فيها تشازيل كلاسيكيات السينما العظيمة.
هذا ليس فيلمًا عن الخيانة والوفاء وتداخلهما في العلاقات، هذا فيلم عن ثنائية (الحب/الطموح) وعن التأثير العظيم للحب بمعناه البسيط، فيلم عن الاختيارات التي تحدد مصائرنا وعن الحب وما يجب أن نقدمه من أجله، هذا فيلم عنا بكل ما فينا وكل ما عايشنا من لحظات سعادة أو خيبات الأمل، فيلم عن تجارب الماضي التي تعيش معنا مهما مرت السنوات، وتأبى مبارحة النفوس، فيلم عن الصورة الأكثر نقاءً وصدقًا وحقيقية للحب، صورة عظيمة ومبهرة عن استنطاق اللحظات الحرجة في الحياة، حيث لا طقوس ولا أنانية في المشاعر، فيلم عن تحول الحب من رغبة وغاية مجردة إلى وسيلة لتكريم كل المعاني العظيمة، فيلم عن اللحظة التي تتحول فيها الذكريات إلى ألم قاسٍ جدًا ثم إلى خلاص أبدي قد لا يأتي إلا بمساعدة من نحب.
فيلم من أعظم ما شاهدت في تقديم السهل الممتنع على الشاشة، لو أن المفضلات السينمائية تقاس بعدد مرات المشاهدة، فهذا بكل تأكيد فيلمي المفضل منذ 2010 وحتى الآن.
اقرأ/ي أيضًا:
أفعال بريّة ترسم فيلم "حكايا طائشة"
فيلم "Inside Llewyn Davis" أو ليلة مع لوين ديفيس