بعد انتهاء المعركة الانتخابية الفرنسية، اختارت مارين لوبان أن تشكر الـ11 مليون ناخب الذين صوتوا لها، و جميع أؤلئك الذين "اختاروا الوطنية على العولمة"، بتعبيرها، وفقًا لما ورد في مقال مجلة فورين بوليسي لإيميلي تامكين.
وأشارت إيرين فينيل هونيغمان، خبيرة الشؤون السياسية الفرنسية بجامعة كولومبيا، لفورين بوليسي، إلى أنّ فوز إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، تسبب في "شعور عالمي غير عادي بالارتياح"، من وجهة نظر الأسواق العالمية كمثال، ومن جهة الأوساط السياسية، وكذا من وجهة النظر الأوروبية، مُضيفةً أنّ "فوز ماكرون سيعتبر في كثير من الأوساط السياسية الخارجية انتصارًا لأوروبا، وضربةً لكراهية الأجانب التي كانت تنشرها لوبان" ومن خلفها غيرها من اليمينيين.
ولكن هذا لا يعني انتصارًا كاملًا لماكرون، ولا خسارة تامة للوبان، فمن جهة ماكرون لديه تحدٍ كبير ألا وهو الانتخابات البرلمانية التي ستُجرى في حزيران/يونيو القادم، لذا سيكون عليه وعلى حركة "إلى الأمام" التي تبلغ من العمر عامًا واحدًا فقط، ضغوط كبيرة للفوز بأغلبية تشريعية.
كثير من الأوساط السياسية العالمية ترى في فوز ماكرون، انتصارًا للاتحاد الأوروبي، ضد الانفصاليين
وفي حال لم يفز ماكرون بالأغلبية البرلمانية، وهو أمر محتمل جدًا، فعندئذ سيحاول تشكيل ائتلاف حاكم عملي يجمع بين أعضائه بعض من اليمين وبعض من اليسار والوسط، وسيحاولون معًا التركيز على خلق فرص عمل، وهي الحاجة الأهم عند الناخبين الفرنسيين، حيث تواجه بلادهم نسبة بطالة وصلت إلى 25% في أوساط الشباب.
لكن تشكيل ائتلاف حاكم، ومن ثمّ قيادته، ليس بالأمر البسيط، لسبب واحد وهو أن كلًا من الجمهوريين والاشتراكيين باتوا لا قيمة لحجمهما بعد فشلهما في خوض الجولة الثانية من الانتخابات الفرنسية، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة.
اقرأ/ي أيضًا: ماكرون الظاهرة.. وأفول الأحزاب التقليدية
الفورين بوليسي تقول إن رئاسة ماكرون لائتلاف حاكم، ربما تكون بمثابة فرصة لتغيير كل هذا، أو قد تعني أن على ماكرون أن يحارب على كل الجبهات، في كل مرة أراد فيها الدفع نحو تغيير ما، يعني هذا أن الناخبين الفرنسيين سيكونون أكثر استياءً وهم يرون أن طموحهم في ماكرون لم يكن في محله تمامًا.
هناك القليل جدًا من الأدلة على أن الناخبين الفرنسيين أصبحوا أكثر حماسًا بشأن العولمة والانتماء للاتحاد الأوروبي، وتقبل إصلاحات العمل القاسية، أكثر مما كانوا عليه سابقًا. من هذه الأدلة احتلالهم الشوارع لمنع قوانين العمل التي اقترحها كل من الرئيس السابق "الاشتراكي" فرانسوا هولاند، والأسبق اليميني نيكولا ساركوزي، وإذا كان هذا هو الحال، إذن فثمة قوة واحدة هزمت، وتتحين الفرصة.
لوبان لن تستلم
في مقال آخر على صفحات الفورين بوليسي أيضًا، اعتبر كاتبه جيمس تراوب، أن فوز ماكرون بمثابة انتصار لقيم الجمهورية، أي الأخوة والمساواة والحرية، وكذا العدالة والنزاهة، أو كما قال. تراوب يرى أن بالنسبة لكثير من الناخبين، فإن ماكرون ببساطة بمثابة أداة الرفض الوحيدة المتاحة للتعبير ضد حالة كراهية الأجانب والمهاجرين، وكل من يمثل الغير.
ومن حيث المبدأ، فإنّ هذا الدعم العاطفي، بدلًا من المرشح نفسه، قد يكون أفضل ما أعرب عنه بنوا أمون، المرشح الاشتراكي الذي حصد 6% فقط من الأصوات في الجولة الأولى، فقال في مقال افتتاحي باللوموند الفرنسية، إنه على الرغم من أنه يرى أنّ حملة ماكرون كانت متعالية، وأن ماكرون نفسه كان متغطرسًا، لكنه مع ذلك يرى أنه قادر على التمييز بين الخصم السياسي الحقيقي متمثلًا في ماكرون بالنسبة إليه، وعدو الجمهورية، يقصد لوبان، لذا فإنه بعد خسارته دعم ماكرون، ودعا إلى التصويت له.
اقرأ/ي أيضًا: "مارين لوبان".. الفاشية تبحث محاربة التطرف
هذا بالنسبة للسياسيين، أما بالنسبة للمواطنين فالأمر مختلف، نستوضحه من خبيرة الممارسة الديمقراطية "ياسشا منك" في حديثٍ لها للفورين بوليسي، قالت فيه: "ما رأيناه في هذه الانتخابات، كان بمثابة تحوّل جذري في المشهد الانتخابي برمته، فلوبان تضاعف التصويت لحزبها على مدى 15 عامًا، ففي عام 2002 واجه والدها جان ماري لوبان، المرشح جاك شيراك، وحصل على 18٪ فقط من الأصوات ليحقق شيراك فوزًا ساحقًا في المقابل"، مُضيفة: "تخيّل كيف ستنمو الأصوات التي ستحصل عليها بعد خمس سنوات من الآن"!
وقال أحد الداعمين الأساسيين لماكرون، وهو رينود دوتريل، رئيس شركة الماركة الفاخرة "لوي فيتون" "LVMH"، إن "لوبان فعلت كل ما بوسعها لاستغلال العداء الفرنسي لأوروبا، لكن الأمر لا علاقة له باليوروفوبيا على الطريقة البريطانية"، مُضيفًا: "أحلم أن تكون هناك نسخة فرنسية من أوروبا، فألمانيا هي المحاسب، وفرنسا هي القيم السياسية والأخلاقية الرائدة".
المواطن الفرنسي.. اللاعب الأهم!
الفرنسيون ممزقون بعمق بين الخوف من مستقبل معولم يعرفون فيه أنهم خاسرون لا محالة، والهروب من سنوات الجمود. ويتصور أحد الخبراء الذين تحدث معهم جيمس تراوب كاتب فورين بوليسي، أن ماكرون يمكن أن يكون موسى الذي "يأخذ بيد فرنسا إلى أرض الميعاد في القرن الحادي والعشرين"، بتعبيره، مُشيرًا إلى جزئية صغيرة، فد لا تبدو فارقة سياسيًا، لكنها كذلك بالنسبة للفرنسيين، فقد أوضح أن هناك دراسة استقصائية كشفت أن 89% من الفرنسيين اعتبروا الطلاقة الإنجليزية سمة حاسمة للرئيس المثالي لفرنسا، و جاء ذلك في تقديرهم أعلى من أي مؤهل آخر بما في ذلك الخبرة السياسية أوالإدارية، و هو أمر جوهري بالنسبة لبلد يعد الأسوأ بكثير من جيرانه في تحدث اللغات الأجنبية، ويعني هذا التوق المؤلم الاستعداد لابتلاع الفخر الوطني والانضمام إلى عالم يتحول إلى العولمة.
ماثيو شيغن صاحب كتاب "فرنسا في المواجهة"، وهو كتاب يتحدث عن مواقف الفرنسيين تجاه الدولة، يرى أن "الفرنسيين يخفون في قلوبهم اعتناقًا خفيًا بالماركسية، ويعتقدون أن الشركات حتى إن كان فيها الخير للاقتصاد، فهي بالتأكيد سيئة للعمال".
ما قدمه ماكرون للفرنسيين هو معرفته الخفية أن بعضهم يعتقد أن فرنسا لأوروبا ليست بهذه الأهمية، لذا فقد رفع شعار "يمكننا أن نشكل فارقًا مرة أخرى". خطاب ماكرون العقلاني والعاطفي نجح في لفت نظر المواطن الفرنسي، حيث كتب ماكرون ذات مرة يقول: "كان لدي دائمًا الاقتناع في حق الإنسان في ممارسة عمل يحبه، والسعي لمشروعه الخاص، والتحقق من الموهبة"، إذن فقد نجح في تحويل طموحه الشخصي إلى مشروع سياسي.
استطاع ماكرون تحويل حلمه الشخصي إلى مشروع سياسي يداعب العواطف دفع به للفوز في الانتخابات
ولا يزال الجدل مستمرًا حول قانون العمل، فعلى سبيل المثال دافعت لوبان عن 35 ساعة عمل أسبوعيًا، فيما أصرّ فرانسوا فيون المرشح الجمهوري، على 39 ساعة عمل أسبوعيًا. أما ماكرون فكان له رأي مختلف تمامًا، فهو يرى أن الأمور لا تدار بهذه الطريقة، وأنه لا بد أن يكون هناك تفاوض بين الشركات والعمال، كما هو الحال في معظم العالم الرأسمالي، وليس المفاوضات بين الدولة والنقابات الرئيسية. فمن شأن هذا النظام أن يتيح لأرباب العمل المرونة دون أن يضر العمال بصورة جوهرية، حسبما قال.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا يُضرب الفرنسيون؟
ويريد ماكرون أيضًا أن يستثمر 50 مليار يورو على مدى خمس سنوات في برنامج جديد، في التكنولوجيا الخضراء، وفي تحديث الرعاية الصحية والزراعة والإدارة العامة والبنية التحتية. كما يرغب خفض الضرائب على الشركات ورأس المال، فضلًا عن الضرائب على الثروة وعلى المساكن، في الوقت الذي يعد فيه بتباطؤ نمو تكاليف التأمين الصحي، وإصلاح التأمين ضد البطالة، وتقليص حجم القطاع العام الشاسع، وإدخال التكنولوجيا الرقمية إلى الدولة.
خطة ماكرون للتحايل على المعارضة، كما ورد في مقال تراوب، وطبقًا للخبراء، تتمثل في أنه يخطط في وقت مبكر من فترة ولايته، خلال صيفه الأول في منصبه، أن يطلب من الجمعية العامة أن تصدر مرسومًا يلغي الأسبوع الذي يستغرق 35 ساعة عمل، ويترك القطاع الخاص لتحديد مجموعة من شروط العمل. هذا سوف يثير معارضة هائلة، ويتطلب شبه أغلبية في البرلمان، ولكن النقابات لا تستطيع تنظيم احتجاجات جماهيرية خلال عطلة الصيف، ويأمل ماكرون أنه بحلول وقت العودة من العطلات، في أوائل أيلول/سبتمبر، سوف تصبح القواعد الجديدة لا رجعة فيها.
اقرأ/ي أيضًا: