لا يمكِن إنكار الدور الأساسي الذي بات يملكُه التسويق والتشويق في صناعة السينما، إذ كما تتعامل الماركات العالمية مع الزبائن في علاقاتها العامة عبر استراتيجيات محسوبة الخطوات لتحقق أكبر كم ممكن من الأرباح، فإن شيئًا كهذا صار يحكم إنتاج الأفلام ذات الميزانيات الضخمة، ولا يسلم من تأثير التسويق على السينما إلا الأفلام المستقلة والمخرجون الذين يصرون على صنع أفلامهم منفصلين عن شركات الإنتاج الكبرى.
تكفينا نظرة على أعمال نولان لنفهم، إنه لا يخرج أي نوع من الأفلام، إنه يخرج فقط تلك التي تترك أبلغ انطباع عاطفي وأفضل صورة
وبالرغم من غلبة ذلك النمط الإنتاجي، فهناك مخرجون استطاعوا الخَلاص من ثنائية المال والفيلم المُقَيِدَة، استطاعوا أن يصنعوا أفلامهم بالتعاون مع الأستوديوهات الكبيرة، لكن بشروطهم وأحكامهم وأساليبهم الشخصية. هناك ثلة من المخرجين تقدم لنا سنويًا أفلامًا أيقونية، ننتظرها بشغف وتبقى معنا لأعوام بعد مشاهداتنا لها، ولعل أهم هؤلاء: المخرج الإنجليزي-الأمريكي، كريستوفر نولان.
كريستوفر نولان واحد من أولئك الذين يصنعون السينما على مهل، السينما عنده كالقهوة عند محمود درويش، أخت الوقت، تحتاج صبرًا وأناة وروِية، تحتاج إتقانًا في الإعداد وكِياسة في الاستخدام، سينما كريستوفر نولان ليست مجرد سينما، ليست مجرد فن ولا كتابة وتصوير وإخراج وتقطيع للسيناريو إلى مشاهد ولقطات، إنها أشبه بالأعمال الكاملة، أعني تلك التي تأخذ من صاحبها عمره ليجمعها في عمل واحد، وكل فيلم لنولان هو عمر كامل، هو فيلم كامل.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Embrace of the Serpent".. ّرحلة أسطورية من كتاب نبيّ منسي
إن نجاح كريستوفر نولان في جعلنا ننتظر فيلمه القادم Dunkirk غير نابع فقط من معرفتنا بجودة أفلامه السابقة ومن قناعتنا أنه من الذين يصنعون السينما الجميلة فعلًا، وإنما هو فوق ذلك، نابع من ثقتنا فيه كمخرج، كفنان، كصائغٍ ونحاتٍ لأعماله، من ثقتنا في أنه يصنع ما يصنع بروحه، من ثقتنا في اهتمامه بالتفاصيل وانتباهه لها وتأنيه عند اختيار كل مكونات الفيلم، لأننا نعرفُ أن نولان عندما يشرعُ في صناعة فيلم، لا يصنعه لنا بقدر ما يصنعه لنفسه، يستمتع به، فنستمتع به.
إن انتظارنا لفيلم Dunkirk هذا العام، يشبه انتظارنا لصمت سكورسيزي في العام الماضي، يشبه انتظارنا لدي كابريو العائد مع إينياريتو قبل ذلك بعام، يشبه انتظارنا لإينترستيلار الذي قدمه نولان قبل 3 أعوام، يشبه انتظارنا لفندق بودابست الكبير مع ويس آندرسون.
هذه الأسماء من بين آخرى قليلة هي التي ننتظرها بشغف، وننتظر أفلامها، ليس لأنها أسماء كبيرة لمخرجين تركوا بصماتهم جلية على الشاشة الكبيرة فحسب، وإنما لأن الرابط الذي يجمعنا بهم تحول من مجرد رابط بين مشاهد ومخرج، بين صانع ومصنوع له، بين مرسل ومتلقٍ، إلى شيء أعمق بكثير، شيء شخصي جدًا، كعلاقاتنا بأصدقائنا وبمن نحب، إننا نحبهم على مستوى ربما يكون أبعد من كل ذلك، إننا نحبهم وننتظر أعمالهم لأنها فرح للروح ومتعة للعقل وتَحدٍ لهما في استخلاص العبرة النصية وفك شفرات اللوحة الفنية.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "المراسلة".. هاجس قديم يسيطر على جوزيبي تورناتوري
ثم إنه تكفينا نظرة على سلسلة أعمال كريستوفر نولان لنفهم طينة المخرجين التي ينتمي إليها. إنه لا يخرج أي نوع من الأفلام، إنه يخرج فقط تلك التي تترك لدينا أبلغ انطباع عاطفي وأفضل صورة حِسية. أعني أن كريستوفر نولان هو الذي قدم لنا أجمل دورٍ عرفناه للجوكر، هو الذي أعاد تلك الشخصية إلى الحياة عبر أداء خيالي من الراحل هيث لدجر، لقد جعلنا نحب الجوكر أكثر من باتمان، وفي نفس الفيلم نفث الروح مرة أخرى في جسد "الرجل الوطواط" بأداء عبقري ثانٍ من كريستيان بيل، قبل أن يعود باتمان للسقوط في فخ الإطناب مع اختيار بن آفليك لتمثيله في الفيلم الأخير المشترك مع سوبرمان.
كريستوفر نولان قدم لنا ماثيو ماكونهي في دورٍ وفيلم عظيمَين: Interstellar الذي أحيا الحنين إلى "أوديسة كيوبريك" وأرجع لأفلام الخيال العلمي مكانتها عبر سيناريو وإخراج مُتقنين.
كريستوفر نولان الذي قدم لنا مشهدًا خاليًا من الجاذبية، مكتمل السحر والجاذبية في Inception، غير قابل للنسيان في فيلم يصعب فهمه بتلك البساطة، تمامًا كما فعل سابقًا في فيلم Memento الذي أتى كمتاهة سينمائية بالغة التقعيد وبالغة الجمال. كريستوفر الذي صنع The Prestige بأناقة وبلاغة سينمائيتَين لا زلنا نعيش ذكرياتهما إلى اليوم وما بعد اليوم.
إننا ننتظر Dunkirk بكل هذا الشغف ونثني عليه حتى قبل أن نراه، لأننا واثقون بأن كريستوفر نولان سيقدم لنا تحفة أخرى وسيجزِي ثقتنا
إننا ننتظر Dunkirk بكل هذا الشغف ونثني عليه حتى قبل أن نراه، لأننا واثقون بأن كريستوفر نولان سيقدم لنا تحفة أخرى، وسيجزِي ثقتنا وانتظارنا بفيلم نشاهده ونقع في حبه ونكتب عنه. ثم إن كل الأخبار والمشاهد التي وصلتنا عن الفيلم حتى اللحظة لا تزيد شغفنا ذلك إلا اتقادًا، يبدو أنه فعلًا سيكون فيلمًا عظيمًا، وسيعالج زاوية أخرى، غير مسبوقة في صنف "أفلام الحروب"، رغم أن نولان أصر أكثر من مرة بأن دانكيرك ليس فيلم حرب تقليدي، وهو تمامًا ما نتوقعه، لأن كريستوفر والمخرجين المُتقنين، علمونا دائمًا أن الفيلم العظيم هو أكثر من وصفه، هو عمل فني له أكثر من وجه وأكثر من معنى، وأكثر من مستوى، وجعلونا نؤمن بأن الفيلم العظيم دائمًا ما يخالف التوقعات.
اقرأ/ي أيضًا: