يشكل الجسد من خلال حضوره وحركته في الفضاء ثقل مادي وفكري، ويسمح بالتعبير عن قناعات وأفكار وقضايا محددة تمس الصميم الإنساني. كذلك، فإن الجسد يخلق مساحة خاصة به، ولغة قادرة على أن تشكل هوية في مواجهة الأنظمة السياسية بأبعادها الإجتماعية والثقافية. فحين يتحرك الجسد، في المكان والزمان، يقوم برسم أشكال مختلفة ويطرح مفاهيم ومفردات جديدة، ويعيد اكتشاف الحركة الجسدية للكائن الإنساني.
حين يتحرك الجسد، في المكان والزمان، يقوم برسم أشكال مختلفة ويطرح مفاهيم ومفردات جديدة
لكن ماذا لو تم تقييد حركة هذا الجسد، منعه، نفيه، تشويهه، تقطيع أطرافه، حرمانه من تنفس الهواء والانطلاق بحرية، أو سجنه وتغييب حركاته التعبيرية؟ ماذا لو تم إخفاء هذا الجسد كليًا؟ كيف سيتمكن الراقص من التعبير إن تم إلغاء الأداة الأساسية التي يعبر من خلالها؟
اقرأ/ي أيضًا: إسماعيل فريحي.. الرقص أفقدني كثيرًا من "الريش" في الجزائر
في ظل الواقع الاستبدادي الخانق، كيف سيتعامل الجسد مع الأمر، وكيف ستصير حركته؟ فهل يمكن لهذا الجسد التعبير وأطرافه مقطوعة؟ وهل هناك قدرة لهذا الجسد على التعبير داخل زنزانة انفرادية؟ في حبس مساحته ضئيلة جدًا لا يدخله الهواء ولا النور؟ إذن، كيف سيواجه الجسد هذا التغييب القسري، وما هي التأثيرات التي ستطبع حضوره المادي وحركاته التعبيرية في ظل هذا الواقع اللاإنساني؟
دلالات الحركة الجسدية
يجيب المسرحي والراقص اللبناني بسام أبو ذياب بالقول "المسرح والرقص لهما علاقة مباشرة وتأثير قوي وارتباط بالسياسة، والسياسة لها تأثير معاكس قوي على كل الحركة الثقافية والفنية". ويضيف بأن مشروعي الآن هو للإجابة عن هذه التساؤلات. إنه مشروع رقص معاصر جديد يحكي عن مدى تأثر جسد الراقص وحركته بالقمع وبالاضطهاد الذي تمارسه الأنظمة السياسية المستبدة على هذا الجسد.
مثلًا، كلبنانيين لدينا أشياء مشتركة في أجسامنا في الطبيعة الفيزيولوجية، وعلى الصعيد النفسي لدينا خوف أو حذر، فأجسامنا دائمة التأهب والتوتر والسرعة وحتى أصواتنا العالية، فكل ما يصدر عن الجسم هو حركة، ومما لا شك فيه بأنها حركة تعبر عن فردانية ولكنها أيضًا تعبر عن فردانية ضمن جماعة ما. فكل جماعة أو شعب لديهم قواسم مشتركة جسمانية سواء بالشكل أو بالمضمون تحيل إلى حالات نفسية وفكرية.
ويرى أن الجسد يكون سياسي عندما يلبس وعندما يخلع وعندما يتحرك وحتى عندما يصمت أو يموت. الجسد سياسي في كل أحواله خاصة عندما يرقص، أي حين يتحرك ضمن إطار وهدف، وحين يحمل خلفية ما غير مباشرة في كثير من الأحيان، فيبحث عن فضاءات جديدة وآفاق جديدة لحركته وشكله فإنه يتحول حتمًا إلى "حركة" سياسية". فالمشي والخطوات والنظرات والأصوات والإشارات والتعابير وردات الأفعال كلها تحمل مضامين سياسية".
العري ثورة؟
فكرة العري هدفها الأساسي في أن الفرد يرجع خطوة إلى الوراء، إلى جذوره الإنسانية الأصيلة. فالعري يعود بالإنسان إلى الطبيعة الصافية، وهذه الطبيعة ذات شمولية عالمية وليست خاضعة لاعتبارات اجتماعية أو صبغة سياسية محددة.
يولد الإنسان عاريًا ثم يأتي المجتمع ليلبسه الثياب والعادات والتقاليد الإجتماعية إلخ.. فهل الجسد في الحرب هو ذاته في السلم؟ هل الجسد حين يكون في حالة عشق هو نفسه الجسد الذي يكره أو يرتكب جريمة؟ هل الجسد في المدينة يشبه الجسد في القرية؟
هل الجسد في الحرب هو ذاته في السلم؟ هل الجسد في حالة عشق هو نفسه الذي يرتكب جريمة؟
هذا ما يخيف الأنظمة السياسية بحسب أبو ذياب، لأن العري هو الحقيقة، ولأنه يضرب فكرة التميز التي تسعى الأنظمة لترسيخها. فعندما نولد يقوم النظام بتركيب شكل ما على أجسادنا متوافق مع نظرتهم للحياة، وبطبيعة الحال فإن الخروج من هذا الشكل هو تمرد على قانونهم، وهنا تصبح المواجهة حتمية.
اقرأ/ي أيضًا: حسن رابح.. الرقص في الريح
الثياب تعطي الإنسان هوية اجتماعية وتميزه عن غيره، فنجد أن الزي الخليجي يدل على مواطن خليجي والزي الأفريقي يدل على الأفارقة وغيرها، ثم تأتي الألوان، والأزياء الخاصة بالمناسبات الشعبية والدينية وكلها توصم الشخصية بمضامين سياسية تلحق الفرد بجماعة ما وهوية إجتماعية. هكذا يتبدل المضمون الإنساني الأصيل للفرد.
يُعدّ أبو ذياب أن العري خروج عن السلطة السائدة، إنه ثورة، أو مسمار في السيستم القائم. ويشير إلى خوف من المسرح الجسدي والرقص المعاصر الآن لأنهما شكلين لا يمدحان الأنظمة ولا يتغنيان بها. هذا النوع من التعبير الجسدي الفني لا يهمه إذا "انبسط الملك" أم لا، فما يهمه هو تشكيل صدمة، والصدمة تفكير، والتفكير وعي جديد. ومن هنا يعي الفرد اضطهاده من قبل الأنظمة ويبدأ بالسؤال، وهكذا تبدأ الثورات بالسؤالات لأنها معرفة.
يعبّر أبو ذياب عن قلقه من الأوضاع الراهنة في المجتمعات العربية فيما يخص حرية التعبير الفني بالقول "نجد أن إخفاء الجسد القسري بالاغتيالات والخطف أو بالمنع والرقابة والسجن لمنع انتشار الصدمة التي يحاول المسرحيون والراقصون إحداثها وتشكيلها بأجسادهم. فالجسد في مجتمعاتنا تابو والرقص يعتبر هادم للمحرمات. بينما يدأب النظام على تصوير الحياة حلوة ويجب أن تستمر هكذا".
شمولية الجسد الإنساني
المسرح الجسدي هو مسرح يتم من خلاله اختصار النصوص والحوارات الكلاسيكية وتحويلها إلى تعابير جسدية، حيث إن الجسد لديه لغة عالمية أكثر من اللغة الكلامية، كاللغة العربية على سبيل المثال لا الحصر. فمثلًا، في أوروبا يمكن للعروض التعبيرية بالجسد أن تصل إلى جمهور أوسع من العروض المسرحية التي تعتمد على حوارات أساسها اللغة العربية. والحركة الجسدية تصل للمتلقي بدون أن يكون لديه معرفة بلغة الراقص الكلامية.
يرى أبو ذياب أن "الجسد يحمل ثقافة وأفكارًا من خلال تشكلاته الجسمانية، وأقوم بطرح قضايا تعني المجتمعات العربية وأقوم بتحويلها لتصبح أكثر عالمية، حيث إني أنطلق من الخاص إلى العام". ويشير "قد تكون العناوين المطروحة قضايا سياسية أو اجتماعية موجودة في البلاد العربية، واستخدم المفردات الحركية المتجذرة في البيئة العربية والإشارات التي ربما نتبادلها في السلوك اليومي والأحاديث الشعبية".
المسرح الجسدي هو مسرح يتم من خلاله اختصار النصوص والحوارات الكلاسيكية وتحويلها إلى تعابير جسدية
في كثير من الأحيان نتوقف عن التحاور والتخاطب باللسان، ونبدأ بالتعبير عن الحالات والمشاعر والأحاسيس والأفكار من خلال الرموز الجسدية التي تكون على شكل صور خاصة بمجتمع محدد وغير موجودة في مجتمع أخر، والتي تعطي هوية خاصة للمسرح الجسدي والراقص. يرى أن التطور الكوني الحاصل زاد من منسوب الفردانية والمطالبة بالحقوق الخاصة بالإنسان كفرد، وأصبح هناك تمرد على التماهي الإجباري مع الجماعة، والأنظمة السياسية والدينية تخشى من تفشي وانتشار هكذا حالات خاصة وأن الأدوات المستخدمة هي الجسد.
اقرأ/ي أيضًا: راقصون جزائريون.. المشي على الجمر
كما هو معروف فإن الجسد له قيمة عالية ومقدسة في البيئة العربية لارتباطه بالمحرم والتابو وغيرها من الأفكار الدينية والاجتماعية. وتأتي الفردية ومعها الحرية الجسدية لتكسر النظام العام، وبهذا نصبح متهمين بمخالفة الدائرة العشائرية القبلية ونمط التفكير السائد، وهنا مكمن الأهمية والخطر التي يحملها طرح مفاهيم مثل "حرية الجسد".
اقرأ/ي أيضًا: