من السهل على العربي أن يسترسل في تكوين جُمل تبدأ بحرف التمني "لو"، ولو كنتَ تركتَ لي الحرية ولم تسحب من يدي القلم الأخير، لأجدتُ في ذلك مئة جُملة ويزيد.
فالعربي المُنهك من الحروب والنافر من خرابات الأوطان المسلوبة من اللصوص وأشباح الأحلام التي اقتنصتها الحكومات ومن الهدف الجامِع المعقور، يمكن لعقله المقهور وبرشاقة لافتة أن يتمنى الى ما لا نهاية.
لكنك باسم السلطة التي تسمتد شرعيتها من ساريات الميادين الجوفاء، صادرت أحلامي وحاصرت عقلي وارتضيت له حظيرة من الواقع ثم قلت ببرود كأن أمري لا يعنيكَ أبدًا، كأن عينيكَ ما رأت بريق عيني يومًا وأنا أخبرك بحماسة عن الأفق الواسع والهروب، كأنني ما أخبرتكَ ذات مساء عن خيباتي، ثم كشفت لك عن أكبر مخاوفي، كم كنتَ قاسيًا حينما قلت: اسكني أنتِ وعقلك ها هنا! ثم أغلقت علي الباب الحديدي، وأنشأت أسوارًا من مستحيلات حول المعتقل المظلم، وأنت تعلم رهبتي الهستيرية من الظلام.
آه! لو تردَ علي مؤونة من خيط وهمٍ واحد، وركن صغير من عالمي الأثير، رشفة من سراب، أصوات شخوص أعرفهم ولا يعرفونني، اقتباسات حفظتها في ذاكرة هاتفي، سطر شعري واحد، لحن غريب لا نعرفه كلانا، وخيال قطة تدللت علي ذات مساء صيفي... لو أنك بدواعٍ إنسانية تركت لي الفُتات تقتات عليه نفسي وقت العَوز ولحظة الجنون. وفي لحظة انهيار عابرة، أقول: لو كان لي مع وهمي الممزوج بالذكرى خلوة، فيتدلى في الحال قطف يحمل كوب من القهوة على الجسر البحري العتيق يحث طيور النورس للتحليق حولي وسماء الله ممدودة فوقي، أو قطف آخر يكون على عريشة في المرج الأخضر البعيد والسماء الزرقاء التي قد تنزلق غيمة رمادية أو اثنتان إلى صفحتها فتزيدها جمالًا إلى جمال، وابريق شاي يصفر من فوق الجمر... هناك بداية الكون ومنتهاه.
ثم أزور سريعًا وبخفة ذكرى الكفر وحطام الأصنام التي دستها بعد عبادة: واحد اسمه الخلود وآخر كنت أغرفُ من بين يديه شعور الأهمية وثالثٌ قبض على وثيقة أسماها الأولويات، تلك الموضوعة سلفًا من أُناسٍ لا أعرفهم، قيل إنهم من قومنا، اكتشفوا الحياة أو ظنوا، وقبل أن يقضوا لم يسعفهم حرف "لو" ليعودوا من جديد فيفخروا بتطبيق نظرياتهم المُستخلصة من على فراش الهَرم والخرف.
أمدُ إليك من تحت باب العزل الانفرادي برسائل رجائي، أتمنى على اللحظة وأُصلي: لو يلين قلبه فيُطلق سراحي! فلا أكون كبقايا جنودٍ عادوا من معركة سيقوا إليها دون معرفة السبب، مُلوثين، منهارين، سُكارى من الخوف الذي يخلق في نفوسهم غُربة سرمدية.
لو تعودَ كرزة في أرض الكرز حُلوًا مثله، لا يهمك الامتثال للأوامر العليا، ولا تخريب ديار من لا تعنيهم الصراعات، تعود فتقرأ لي الحكايات مرة أخرى، إنسانًا يحتوي شبيهه، لا يكترث لهويته، أو من أي البلاد جاء، غريب يحادثُ غريبًا، لا يهمه من فعل الحديث سوى الأُنس الذي ضَيقت عليه بطاقات التعريف والأصول والأوطان القومية.
أقول لك: روحي تشتهي الحرية، فتقول لي: لا شيء يشبهنا هنا سوى هذا البحر وهذه السماء... وهذا يكفي.
بلى، يكفي مؤونة لعُمر أو اثنين!
اقرأ/ي أيضًا: