بعد ثلاثة وأربعين عامًا من عضوية الاتحاد الأوروبي، قرر البريطانيون، في استفتاء شعبي عام، الخروج من الحظيرة الأوروبية "brexit" بنسبة تصويتية تصل إلى 51%، ليربكوا بذلك العالم كله، ناهيك عن أسواق عملاته ومضارابته والسلع الأساسية من نفط ومواد خام معدنية.
أحد أهم الاسباب التي عجلت بانفصال بريطانيا هم المهاجرون من شرق أوروبا
أرجع البعض أسباب ذلك إلى الغضب من الحكومات المتعاقبة التي تسببت سياسياتها في الاضطراب الاقتصادي وسياسات التقشف وخفض الاتفاق، ما شكل منبعًا خصبًا للدعاية الشعبوية اليمينة المتطرفة بين الأوساط العمالية والريفية ومحدودة الدخل.
وفي حين أبدى حزب العمال أسفه إزاء نتائج الاستفتاء على لسان زعيمه جيرمي كوربن، الشهير بالتصريح العلني بمواقفه المنفتحة على القضايا العادلة مثل الهجرة القسرية والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وصف نايجا فاراج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني، نتائج الاستفتاء بالبداية الجديدة التي اختاراها البريطانيون لأنفسهم.
أحد أهم الأسباب التي عجلت بانفصال بريطانيا من وجهة نظر بعض المحللين هم المهاجرون الشرق أوروبيون، الذين دخلت دولهم الاتحاد الأوروبي في الفترة مابين 2004 -2007، والذين ترى بريطانيا أنهم عبء اقتصادي عليها، في حين يرد آخرون على وجهة النظر هذه بكون معظمهم من فئة الشباب القادر على العمل ودفع الضرائب، ولا يشكلون بالتالي عبئًا اقتصاديًا على أحد.
اقرأ/ي أيضًا: مصر..أحاديث المصالحة مرة أخرى
تخوفات اقتصادية
بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فإن عليها أن تقوم بسلسلة طويلة من المفاوضات مع الاتحاد حتى تستطيع توفيق أوضاعها، وقد تستمر هذه المفاوضات إلى مدة تصل إلى عامين، قابلة للتجديد في حال الضرورة وموافقة كل الأعضاء، تبقى فيها بريطانيا عضوة في الاتحاد إلى حين انتهاء إجراءات الخروج، التي طالب المجلس الأوروبي أن تتم مباشرتها في "أقرب الممكن" ومن المتوقع أن يُصعب الاتحاد الأوروبي إجراءات الخروج على بريطانيا حتى لا تحذو حذوها الدول الأخرى التي تود الانفصال مثل اليونان، ولإسكات تنامي الدعوات اليمينة للانفصال من بلدان أوروبية أخرى عضوة في الاتحاد مثل فرنسا، التي شهدت خطابات ودعوات للانفصال تزعمتها مارين لوبان عن الجبهة الوطنية، التكتل القومي المتطرف والعنصري.
من أهم الآثار الاقتصادية التي حذرت منها كريستين لاجاراد، مديرة صندوق النقد الدولي، على خلفية انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أن المملكة المتحدة تحتاج للتفاوض على شروط الانسحاب، وهيكلة علاقة جديدة مع الاتحاد الأوروبي، ما يعني وضع المزيد من العقبات أمام الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية، ونوهت إلى أن الخروج من الاتحاد الأوروبي سيدفع باتجاه تآكل وضعية لندن كمركز مالي عالمي وسيؤدي إلى اضطراب السوق العالمي والبورصة على المدى القصير والبعيد، بالإضافة إلى التراجعات المشهودة لقيمة اليورو والاسترليني مقابل الدولار الأمريكي والسلع الأساسية بما لا يقل عن ست نقاط خلال الساعات الأولى للحديث عن النتائج.
جانيت يلين رئيسة الاتحاد الفيدرالي في الولايات المتحدة حذرت من أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى بطء النمو الاقتصادي في الصين سيكون له نتائج سيئة على أسواق المال العالمية وعلى الولايات المتحدة.
كما حذرت بنوك عالمية من بينها غولدمان ساكس، المستقر في لندن مركزًا، من أن خروج بريطانيا يمكن أن يضرّ موقف لندن التي تهيمن على سوق الصرف الأجنبي البالغ حجمها 5 تريليونات دولار يوميًا.
تدفع بريطانيا سنويا ما يعادل 47 مليار دولار تكاليف عضويتها في الاتحاد، لكن مقابل ذلك ترتبط بعلاقات اقتصاد عميقة الجذور مع أوروبا التي توصف بأنها أكبر سوق في العالم، فالاستيراد والتصدير ضمن المظلة الأوروبية أيسر بكثير مما لو كان من خارجها كما سيحصل مع المملكة المتحدة في قادم الأيام، إذ ستكون مجبرة على مراعاة عشرات الاتفاقيات والبروتوكلات مع الشركاء من القارة العجوز، بينما ستغلى العشرات منها ذلك وتضاف عشرات أخر.
ويبلغ حجم الاستثمارات الأوروبية في بريطانيا نحو 700 مليار دولار، فيما تشير الأرقام إلى أن حجم اقتصاد بريطانيا يمثل سدس الاقتصادات الأوروبية مجتمعة، وأن 47% من صادرات بريطانيا موجهة للاتحاد الأوروبي الذي يضم نصف مليار مستهلك، بينما تستقبل لندن منه 53% من وارداتها، ويرتبط بهذه الأرقام من التجارة الخارجية، نحو 3 ملايين وظيفة بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ولم يتوقف الأمر حد الاقتصاد، وإن كان هو محور المتابعة والحديث بشأن انسحاب الجزيرة من المنتظم الأوروبي، ولا حتى حدود الجدل السياسي، بل أن أصواتًا كثيرة من داخل المملكة ظهرت خلال الـ48 ساعة الأخيرة على مختلف صفحات الصحف اللندنية وشاشات التلفزة، بصدد التنويه للمعيقات التي ستطرأ على قطاع الرياضة والمشاركة في البطولات مثًلا، كذلك فيما يتعلق بالسياحة وحرية التنقل والإقامة والعمل للأوروبيين على أراض المملكة والعكس بالعكس، ومئات آلاف، بل ملايين البريطانيين ممن انتقلوا للسكن في مدن وعواصم أوروربية سيجدون أنفسهم أمام وضعية مربكة شأنها شأن الاختيار الحاسم والنهائي بشأن حياتهم التي كانوا قد عبروا القنال الإنجليزي/المانش لتأسيسها على أرض القارة الأوروبية.
اقرأ/ي أيضًا: بحكم المحكمة..تيران وصنافير مصريتان
آثار سياسية وردود أفعال
في سياق ردود الأفعال على ما حدث أعربت كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا استياءها من الخطوة التي اتخذتها بريطانيا مع الإعراب عن كامل احترامهم لقرار البريطانيين في الانفصال، وإن شابت ردودهم أفعال المرارة، والخوف أن يشجع ذلك دولًا أخرى على انتهاج نفس السبيل، خاصة أن نسبة الحسم حرجة جدًا بين معسكر الخروج ومعسكر البقاء، بل تكاد لا تذكر، لكنها تبقى "أغلبية" على الأقل تقنيًا.
ومن جانبها، صرحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قائلة: "علمنا بقرار الشعب البريطاني بكثير من الأسف، فليس من المشكوك فيه أن القرار يعد ضربة لأوروبا ولمشروع الوحدة الأوروبية. ولكن العواقب المترتبة على القرار تعتمد على استعدادنا ورغبتنا - نحن الدول الـ 27 المتبقية في الاتحاد - على ألا نستخلص دروسًا مبسطة ومتسرعة من الاستفتاء الذي جرى في بريطانيا، فمن شأن ذلك زيادة الانقسام في أوروبا".
أما الحكومة الإسبانية فقد دعت إلى إخضاع جيب جبل طارق إلى سيادة إسبانية بريطانية مشتركة، مستغلة التوتر القومي العالي في الشارع البريطاني تزامنًا مع الاستفتاء، في رمية استباقية منها لاستقبال اليمين القادم المرتقب على غرف برلمان ويستمنستر وحكومتها، بعد تصريح دافيد كاميرون، رئيس الوزراء الحالي بأنه لا يصلح ليكون قائدًا في المرحلة المقبلة، ما زاد من شهية أنصار الانفصال في التوسع أكثر في حراكهم ليمسي من دعوة انفصال عن الاتحاد الأوروبي إلى مشروع تمدد شعبوي يبقي عينه على رئاسة الوزراء، ناهيك عن الحسرة اليمينية بشأن عمادة لندن التي ذهبت لمهاجر ومؤيد للبقاء في آن معًا قبل أسابيع قليلة.
وكانت منطقة جبل طارق، وهي منطقة حكم ذاتي تابعة للتاج البريطاني، قد صوتت بأغلبية ساحقة في استفتاء الأمس لصالح بقاء بريطانيا عضوًا في الاتحاد الأوروبي. ويبلغ عدد سكان جبل طارق زهاء 30 ألف نسمة إذ صوت أكثر من 95% منهم لصالح البقاء. ولكن وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل غارثيا مارغالو قال الجمعة "أصبح رفع العلم الإسباني على جبل طارق أقرب بكثير"، في تعبير عن النهج الإسباني التوسعي جنوبًا، ما يعيد للأذهان طول وصلافة رفض مدريد انهاء احتلالها لسبتة ومليلية.
أما على صعيد السياسة الأوروبية فيرى محللون أن هذا الانفصال قد يؤدي إلى تعزيز النزعات المتزايدة للانفصال في الاتحاد الأوروبي وإطلاق العنان لسلسلة من ردود الأفعال التي من شأنها أن تدفع عدد من الدول الأعضاء إلى اتخاذ قرار الرحيل.
وقد يؤدي ذلك في نهاية المطاف، إلى انهيار اليورو، الذي يشهد مرحلة تراجع حرجة، سواء في التداول أو المضاربة، وتفكك السوق الأوروبية المشتركة، وإضعاف قوة أوروبا على صعيد العالم، واتخاذ العلاقات الدولية في أوروبا طابعًا أقل سلمية، مما يعيد للذاكرة الأوروبية بعضًا من صور الاحتراب الأوروبي - الأوروبي، الذي جر العالم أجمع إلى حربين كونيتين خلال النصف الأول من القرن العشرين. ربما هي حقبة التحولات الأوروبية التي ستخيم ظلالها على أسواق العالم ودبلوماسيته لسنوات مقبلة، لكن أيضًا يبقى سؤال الهوية، هوية أوروبا، وهوية الشعوب المنضوية ضمن الاتحاد، متحفزًا على الدوام وقابلًا للتحوير ومراكمة التغيرات التي، ربما أيضًا، ستحمل مفاجئات يسهل التنبؤ بمطلعها لكن ليس بمآلاتها تمامًا.
اقرأ/ي أيضًا: