خلال السنوات الماضية، سنوات ثورات الربيع العربي تحديدًا، وعبر شبكات التواصل الاجتماعي، استحضر وتناقل الشباب رموزًا وشخصيات ونصوصًا واقتباسات لشخصيات مشهورة، للتأكيد على مواقفهم، والتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم تجاه الحاضر والمستقبل، وقد سبق ذلك إعلانهم الرغبة بالحرية، كمفهوم وممارسة ضد سلطة الدكتاتوريات الحاكمة.
استعار لوركا شخصية ماريانا بينيدا التاريخية من ذاكرة إسبانيا، بالتزامن مع صعود سلطة الدكتاتور بريمو دي ريفيرا
ولعل أبرز هذه الشخصيات المقتبس عنها غارسيا لوركا، الذي امتازت معظم كتاباته وشخصياته المسرحية بنزعتها إلى الحرية "ماريانا أي شأن للإنسان بلا حرية، كيف لي أن أحبك إن لم أكن حرًا؟"، استعار لوركا أيضًا شخصية ماريانا بينيدا التاريخية من رفوف الماضي، من ذاكرة إسبانيا قبل مئة عام آنذاك، بالتزامن مع صعود سلطة الدكتاتور بريمو دي ريفيرا، وجعل من هذه الشخصية تتجاوز الحدود المحلية لتنطلق إلى العالم بأسره، ولتتوهج كشعلة أبدية ورمزًا لثنائية الحب والحرية.
اقرأ/ي أيضًا: ثلاثة شعراء ومرثية واحدة
فما هي حقيقة ماريانا بينيدا؟ وكيف أنجز لوركا مسرحيته عنها؟ وهل حقًا قال لوركا قبل إعدامه هذه الأبيات الشهيرة عن ماريانا والحرية؟!
بيوغرافيا ماريانا بينيدا (1804-1831)
هي ابنة ماريانو دي بينيدا إي راميريث، الذي ينحدر من أصول أرستقراطية، قبطان البحرية الملكية في غرناطة، وفارس النظام في كالاترافا، وماريا دولوريس مونيوث إي بوينو، وهما حبيبان لم يتزوجا، وربما يعود ذلك لصغر سنها وانتمائها إلى طبقة اجتماعية أدنى. بعد وفاة والدها، هجرتها والدتها لتهرب مع عشيقها، فانتقلت للعيش في كنف زوجين لم يرزقا بأطفال، وهما: دون خوسيه دي ميسا ودونيا أورسولا.
تلقت ماريانا تعليمًا جيدًا وكانت في غاية الجمال، لم تحمل تقاسيمها الطابع أو النموذج الأندلسي السائد، بل كانت شقراء وعيناها زرقاوين. تزوجت ماريانا من الجندي مانويل بيرالتا عام 1819، وكان يكبرها بخمسة وعشرين عامًا، وبعد ثلاث سنوات من زواجهما توفي وترك في عهدتها طفلين صغيرين خوسيه ماريا وأورسولا ماريا، ولم تك للتجاوز الثامنة عشرة من عمرها بعد. ومن المرجح بأن أولى توجهات ماريانا بينيدا الفكرية كانت بتأثر من زوجها مانويل. فانضمت إلى القضية الليبرالية مع عودة الحكم المطلق لفرناندو السابع في عام 1823، والتقت بالمتمردين الملاحقين لمواقفهم ضد الملكية، وأصبح منزلها ملاذًا لهم، في عام 1928 نظمت هروب قريبها فرناندو ألفارز من سجن غرناطة، وكان ليبراليًا أيضًا ومتمردًا على النظام الملكي. وفي عام 1829 أنجبت ماريانا طفلة، لويزا، من حبيبها خوسيه دي لا بينيا.
كانت الشرطة على دراية بتورط ماريانا في التحضير لانتفاضة قادها الجنرالات الليبراليون في المنفى، خوسيه ماريا توريخوس وفرانسيسكو إسبوز إي مين، وكان من المفترض أن تشتعل في 20 مارس عام 1831، إلا أن الاستعدادات كُشفت وأجهضت. اقتحمت الشرطة منزل ماريانا في كالي ديل أغويلا في غرناطة، قبل يومين من الموعد المزمع للانتفاضة في 18 مارس 1831، وعثروا على علم يمثل شعارها، وكان الليبراليون قد طلبوا من ماريانا تجهيزه: راية بلون البنفسج ينتصفه مثلث أخضر، وتحيط به ثلاث كلمات: الحرية، المساواة، والقانون.
صدر الحكم على ماريانا بينيدا بالإعدام، وتم منحها خيار العفو إن اعترفت بأسماء أصدقائها المتمردين، إلا أنها رفضت الوشاية بهم، وتم دفنها بدون صليب أو علامة من أي نوع، وبعد وفاة الملك أصبحت رمزًا للحرية، وحققت شهرة شعبية وأدبية استثنائية، أما سيرتها فقد تناقلتها الذاكرة الشعبية على شكل أغنيات وقصص مروية في الميادين والشوارع، وأكثرها شهرة الأغنية التي ابتدأ واختتم بها لوركا مسرحيته:
أوه، ياله من يوم حزين في غرناطة
يوم بكى الحجر
لرؤية ماريانيتا تموت على المقصلة
لأنها لم تعترف!
مسرحية ماريانا بينيدا (1925)
كتب لوركا هذه المسرحية بعد سبع سنوات من فشل أولى أعماله المسرحية "رقية الفراشة المؤذية"، وقد استعار لوركا هذه الشخصية التاريخية تزامنًا مع نشوء دكتاتورية ميغيل بريمو دي ريفيرا واستلامه رئاسة الحكومة والمجلس العسكري، بعد الانقلاب الذي نفذه عام 1923. إلا أن لوركا أعلن: "إنه عمل فني خالص، مأساة من مخيلتي، ودون أي نوايا سياسية، وأود من نجاحها، أن يكون نجاحًا شعريًا". وخلافًا لغيرها من الشخصيات، شغلت ماريانا بينيدا مخيلة لوركا، ففي رسالة لصديقه ميلخور فيرناندز ألماغرو عام 1923، أعرب عن رؤيته وتصوراته لبطلة عمله: "ترتدي الأبيض، ينسدل شعرها في إيماءة درامية سامية، هذه المرأة جالت في الطريق السري لطفولتي وتركت أثرًا لا يخطىء، امرأة تعرفت عليها وأحببتها منذ سن التاسعة".
أراد لوركا، من شخصية ماريانا بينيدا في عمله، أن يجعل منها أيقونة إسبانية لا تنسى
أراد لوركا، من شخصية ماريانا بينيدا في عمله، أن يجعل منها أيقونة إسبانية لا تنسى، المرأة التي ستضحي بحياتها لأجل المُثل والقيم العليا "هناك جوانب متعددة لماريانا بينيدا، ماريانا البطلة، ماريانا الأم، ماريانا الواقعة في الحب، ماريانا المُطرزة، وحتى ماريانا العاميّة... لكني لن أنشغل بها كلها، ولأختار فإنني أكثر اهتمامًا بماريانا العاشقة" أوضح لوركا بعد عرض مسرحيته عام 1927.
اقرأ/ي أيضًا: بيثنتي اليكساندري.. الناجي في ذكرى رحيله
إن أحداث المسرحية الرئيسية تتماثل مع الواقعة التاريخية، وتختلف عنها في مواضع أخرى، فقد أرادها لوركا قصة حب مشحونة بالعاطفة والتضحية، ماريانا عاشقة لبيدرو، فيرناندو يهوى ماريانا، وماريانا وبيدرو يمقتون بيدروسا ضابط حرس الديكتاتور، والأخير بدوره يكره بيدرو ويرغب بماريانا.
إلى أن يصل لوركا لشخصيته المتخيلة والمنشودة، توجب عليه إخضاع شخصية ماريانا إلى سلسلة من التحولات: أولًا، عاطفة الحب التي سيطرت عليها كليًا، ودفعتها إلى الانخراط في النضال الليبرالي ضد الحكم المطلق. ثانيًا، إلقاء القبض عليها، الأمل والألم اللذان سيطرا عليها جراء انتظار حبيبها بيدرو لإنقاذها. ثالثًا، خيبة الأمل التي اعترتها جراء هروب بيدرو وتركها لمصيرها، ثم رفضها إفشاء أسماء الرفاق واختيارها التضحية بحياتها. باختصار، إن معادلة لوركا المسرحية تتلخص بالحب والمعاناة والتضحية بالنفس، الانتقال من المستوى الفيزيزلوجي المادي إلى المستوى الأثيري الروحي عبر المعاناة، هذا الانتقال الذي تخضع له البطلة بمحض إرادتها كبرهان على عشقها لبيدرو يحررها، ويجعلها تتخلى عن جسدها مقابل الانتقال إلى العالم الميتافيزيقي. إن ذات المعادلة هي من جعلت من ماريانا الأسطورة الشعبية الإسبانية.
تقول لبدروسا الضابط: أتنسى أنني لكي أموت
يجب أن تموت غرناطة كلها
يغلب على العمل المسرحي لغة لوركا الشعرية الموسيقية الغنائية، والصور الرقيقة والإيحاءات والتنبوء للأحداث الدامية والنهاية التراجيدية للبطلة، يبدأ المشهد الأول للمسرحية:
تطرز وتطرز وئيدًا
رأيتها من ثقب المفتاح
ولاح الخيط الأحمر بين أناملها
جرح سكين في الهواء
وفي وصف آخر يوحي بموتها على المقصلة:
ما أشد صمت غرناطة!
ثمة نظرة ثابتة تترصدني
وراء الشرفة
ترمقني...
عنقي الجميل
وكل جلدي، مشدودان
يتلازم ويتماهى مفهوما الحب والحرية عند لوركا في مسرحية ماريانا بينيدا، ويصبحان كلًّا واحدًا لا يتجزأ، وكأنها معادلة حتمية وصيرورة، حتمية الحب التي تؤدي إلى حتمية التحرر والحرية. ويعبر لوركا بأن الحب والحرية في شخصيات أعماله "كانت مثل خنجرين مسمرين باستمرار في قلوبهم".
تقول ماريانا بعد إلقاء القبض عليها واقتناعها بأن حبيبها بيدرو لن يسعى لأجلها:
تحب الحرية فوق أي شيء
لكنني أنا الحرية نفسها، أهب دمي
الذي هو دمك ودم كل المخلوقات
وفي المشهد الأخير، تقول قبل خروجها:
أنا الحرية فهذه إرادة الحب.
عرضت المسرحية على خشبة مسرح غويا عام 1927، في برشلونة، وقام بأدائها شركة الممثلة الإسبانية مارغريتا خورغو، وصمم المشاهد الرسام المشهور سلفادور دالي، وتم إخراج العرض بتوجيهات من لوركا، وفي شهر تشرين الأول/أكتوبر عرضت المسرحية في مدريد على خشبة مسرح فونتالبا.
وقد أشار العديد من الكتاب بأن هذه المسرحية ونهاية البطلة تنبأت وانتهت بمصير الكاتب والشاعر نفسه.
حقائق عن إعدام الشاعر غارسيا لوركا
مع تصاعد ثورات الربيع العربي، وخروج المسيرات الشعبية إلى الشوارع تهتف للحرية، تناقل الآلاف على مواقع التواصل الاجتماعي، صورة تدعي بأنها للشاعر الإسباني لوركا قبل إعدامه يتلو أبياته الأخيرة، أمام جنديين يصوبان السلاح نحوه، حيث يبدو الرجل في عقده الخامس، أبيض البشرة ويغزو الشيب شعره، بينما قُتل لوركا وهو في الثمانية والثلاثين من عمره، وتميل بشرته إلى السمرة، وفي آخر صورة التقطت لغارسيا لوركا عام 1936 في سنة إعدامه كان لايزال شعره أسودَ.
ولم تفد أي وثيقة أو مرجع موثوق بقول الشاعر قبل موته، الكلمات المقتطفة من مسرحية ماريانا بينيدا، وتعود لشخصية بيدرو:
ماريانا أي شأن للإنسان بلا حرية
كيف لي أن أحبك إن لم أكن حرًا؟ أخبريني!
كيف لي أن أهبك هذا القلب المتين لو لم يكن قلبي؟
أولى الوثائق الرسمية المنشورة عن حادثة إعدام فيديريكو لوركا، صدرت عام 1965، وذلك بعد طلب وجهته الكاتبة الفرنسية مارسيل أوكلير إلى وزارء الحكومة الإسبانية، للحصول على معلومات عن إعدام الشاعر، فأوعزت الحكومة إلى شرطة غرناطة بكتابة التقرير، أي بعد حوالي 29 سنة من وفاة لوركا.
بقي مصير لوركا الأخير غامضًا، كنبوءة قالها ذات مرة: "وحده الغموض يجعلنا أحياء، وحده الغموض"
تشير الوثائق إلى أن غارسيا لوركا قد تعرض للاضطهاد بسبب معتقداته، واصفة إياه بأنه "اشتراكي وماسوني"، وقيامه بـ"الممارسات الجنسية الشاذة وغير الطبيعية". وقد نفذت الشرطة عمليتي تفتيش على منزله في غرناطة، فاضطر للهروب إلى منزل أحد أصدقائه. في آب/أغسطس عام 1936، وبعد شهر واحد من اندلاع الحرب الأهلية، حاصر الضباط المنزل الذي كان يختبئ فيه لوركا، بينما حاول أصدقاؤه التدخل والدفاع عنه. ذكرت الوثائق أيضًا أنه تم إلقاء القبض على غارسيا لوركا واقتياده بالسيارة الى منطقة قريبة من المكان المعروف باسم فوينتى جراندي مع معتقل آخر. ثم "أُعدم على الفور بعد أن اعترف، ودُفن في ذلك المكان، في قبر ضحل جدًا، في وادٍ". ولم تعطَ أية تفاصيل عن محتوى اعترافه. وبذلك ينفي محتوى التقرير كلام الدكتاتور فرانكو، الذي قال إن الشاعر مات في الشارع، وقتل في شجار غير خاضع للسيطرة.
اقرأ/ي أيضًا: الشعر في كتالونيا.. مع الناس في الحارات
"أنا لا أصدقهم" يقول صديق الشاعر باسكال، "كان لديهم دوافع لانهائية لاغتياله، فيديريكو يمثل كل ما يكرهونه: شاعر، فنان شعبي، مفكر لامع... لقد أزعجهم من كل الجهات".
أما الكاتب والباحث ميجيل كاباليرو بيريز فقد قضى ثلاث سنوات في أرشيف الشرطة والمحفوظات العسكرية لتجميع آخر 13 ساعة من حياة الشاعر، والذي أطلق النار عليه من قبل فرقة إعدام من الجناح اليميني في وقت مبكر من الحرب الأهلية الإسبانية.
ويذكر في كتابه بأن معظم الرجال الذين شكلوا فرق الإعدام قاموا بإطلاق النار على مئات من المشتبهين بهم في صيف عام 1936، وكان لوركا واحدًا منهم فقط. لقد حصلوا على مكافأة قدرها 500 بيزيتا، وتم ترقيتهم للقيام بالأعمال القذرة للدكتاتور المستقبلي فرانكو. وقال كاباليرو: "أسميهم الجلادين" بدلًا من"القتلة" لأنه في حين أن بعضهم كان متطوعًا، إلا أن آخرين كانوا من رجال الشرطة، الذين سيتعرضون لإطلاق النار، إذا رفضوا الأوامر". وقيل إن أحدهم اشتكى من أن الوظيفة "كانت تدفعه إلى الجنون". وربما البعض من هذه الفرق لم تكن تعرف حتى من هو لوركا. "لم يكن هؤلاء الأشخاص الذين يقرأون الشعر، النخب من قرأت أعمال لوركا إلى حد كبير"، وأضاف كاباليرو: "كانوا ليهتموا أكثر بالفوضويين ذوي السمعة الكبيرة بالخطورة"، لكن كلاً من قائد فرقة إطلاق النار، وهو شرطي صارم يبلغ من العمر 53 عاماً يدعى ماريانو أجينجو، وعضو متطوع يدعى أنطونيو بينافيدس - الذي كان قريبًا لزوجة والد لوركا الأولى - كانوا يعرفون من هو، وأفادت تقارير أن بينافيدس تفاخر في وقت لاحق "أعطيت صاحب الرأس الكبير طلقة في الرأس".
إلى يومنا هذا، وبالرغم من جميع الجهود والمحاولات الحثيثة التي بذلتها الحكومة الإسبانية، والدراسات التي قدمها باحثورن ومؤرخون، لاحتمالات العثور على رفات غارسيا لوركا، باءت جميعها بالفشل، فبقيت بعض أسرار شاعر إسبانيا العظيم غير معلنة، ومصيره الأخير غامضًا، كنبوءة قالها ذات مرة "وحده الغموض يجعلنا أحياء، وحده الغموض".
اقرأ/ي أيضًا: