قد تطول الطريق وتتعرج، ومن الممكن أن تتفتحَ على سهلٍ واسع، قد يكون الأسفلت خَشِنًا فيتركَ صوتًا في الأذن الوسطى ويضربَ كلَّ محاولاتِ النوم أرضًا، وقد يتساهلُ – الإسفلت أيضًا- فيصيرَ ناعمًا كصوت الصمت.
وقد تنتهي الليلة سريعًا بعدَ لقاءٍ قصير، ولربما تتمدد لتصيرَ جزءً من ذاكرةِ يومٍ واحد بتاريخين متتابعين، ولربما كانَ ذاك القميص أجمل من الذي قررنا نقلَ مكانَ اقامتهِ ليستقرَ في خزانتنا.
نفتقدُ رفاهية الرجوع مترين إلى الوراء، أو حتى ثانيتين فقط لنرسمَ لوحة مختلفة، طَوعًا ركضنا وراء بللِ الريشة التي كانت سببًا لدهشةِ الزائر الغريب لمعرض الحياة.
نحنُ لوحاتٌ لم تكتمل، ينقصها خربشة صغيرة في زاويتها لتصيرَ قصّة، قصّتنا التي قاومنا فكرةَ كتابتها لأن إيمانًا غريبًا سيطر علينا فأقنعنا أنها مجردُ خربشات تافهة، لن يقرأها أحد.
نحنُ القصص التي أضاعها الرواة لفارقٍ بسيط في التوقيت، والاختيار.
على يقينٍ رخوٍ بَنينا أحلامًا طاردناها، شيءٌ ما أوعزَ خفيةً لصورةٍ قديمة أن تقتحمَ الشاشةَ الرئيسية، حاولنا اتلافها آلافَ المرّات فتعودُ كذبابة موسمية، تتركُ كل المساحات لتحطَّ قرب أعيننا، تستفزّنا بِفَركِ أجنحتها مستلذّةً بالدرجات السبع والثلاثين التي تولّدها أعضائنا، نخافُ من فكرةٍ تافهة أننا ان حاولنا قتلها، فقد أنقصنا من عُمرِ هذا الكوكب سنةً أو اثنتين.
رتابةُ الأيامِ خيارٌ أيضًا، عادةٌ مريحة للجبناء.
الشجعان هم الذينَ يرفضونَ كل ما هو "مُعد مُسبقًا".
نختارُ شَمسًا جديدة، تلك التي تُشرق حين ينامَ الجميع، الليلُ ضوءٌ لمن يريد، فَرحٌ خَفي يُصيبنا حينَ تتلمسُ يدنا ما لم نعتدهُ من حروف، طريقُ طويلٌ نختارهُ لنقتلَ ملل الدقائق، فيُثارُ السؤالُ الغريب؛ ما الذي جعلَ الدقيقة، دقيقة إلى هذا الحد من البطء؟
حين يقترب الهواءُ منّا نلفُّ بعضنا على بعضنا لنَتقيه، بلا وزن هو – الهواء – لكنّه قادر على خلخلةِ الثقة التي اعتقدنا أننا نملكها، هَبّةٌ واحدة أو اثنتين قادرتانِ على ما لم يقدر عليه أحد، نخشى من حقيقتنا الحقيقية أننا اضعف من ريحٍ بارد سريع، وتكسرُ فينا ثقةًّ بنيناها خسارةً فوق خسارة، وسقطةَ بعدَ أخرى فصارت سورًا إتكأنا عليه أمامَ الآخرين، وفي اللحظةِ التي مِلنا عليه بكاملِ حياتنا لننجو، خَدعنا بمنظرهِ، وصارَ السورُ مَرقدًا لنا.
*
أن تختار طريقًا بينَ اثنين يعني أن تَنفي نصف الاحتمالات الأخرى، وكلُ احتمالٍ، حياة، وكلُّ خيارٍ قرار.
نحنُ ما نرى ونسمع ونقرأ، وما بعدَ ذلك مهمة لا دورَ لنا فيها، فما الذي يعنيه أن يقرأ شخصان سطرًا واحدًا ويخرجانِ برأيين متناقضين؟
والكلمة ذاتها تحملُ أكثر من معنى إن خرجت من فمنا بصوتِ مُختلف، فيختلفُ الرد، والمعنى.
ولعلّنا لم نصل بعد كل تلك الكيلومترات التي طَويناها تحتَ ما ظننا اننا نقومُ به بحجّة انشغالاتنا اليومية، فَارقتنا لذّة ما نرغب لأجل ما يُمكن، ونَسينا طعمَ ما نُحب بعد أن تعودنا على ما اعتدنا عليه، قَتَلْنا روتينُ الوقت، وصارَ كل شيء يشبهُ بعضه.
بياضُ الورق لم يَعُد يستفزُّ فينا حركة الحروف، والماءُ هو الماء، وما يختلفُ بينَ كأسِ وآخر، هو ما نشعرُ بهِ من عَطشٍ حينها.
بطبيعتنا نميلُ نحوَ النور، وما هو مُضاء، ولو كانَ بعيدًا قليلًا، فإنه سيمنحنا أملًا خفيًا لنمشي نحوه. نتغاضى عن كل وهمٍ يُصيبنا لنؤكدَ لأنفسنا أننا على صواب، وأننا سنقدرُ على تحمّلِ كل العواقب.
أحيانًا، تأتينا العواقبُ قبل أن نُنهي طريقنا، وأحيانًا أخرى، تتذكرُ عقابنا حين نظنُ أننا وصلنا.
*
في زمنٍ بعيد، حين أُشعلت أولُّ نار، لم يكن العالمُ منشغلًا بما ستحرقُ من بشرٍ وشجرٍ فيما بعد، فالآن، هو فقط ما كان مُهمًّا، ولو أن مَطرًا هطل حينها، لما رأينا النور.
*
لحظةٌ واحدة هي المسألة، وهي الفرق، والقرار وسيلة لتبرير كل ما حدث،
وما سنقررُ من خَيارات.
اقرأ/ي أيضًا: