على بعد 40 كيلو مترًا من العاصمة اللبنانية بيروت، يقبع متحف الشمع التاريخي بالقرب من قلعة جبيل ومن متحف "آرام بزيكيان" ومبنى عش العصافير اللذين تناولناهما في تقرير سابق، متحف يؤرخ ببراعة لتاريخ لبنان منذ عصور ما قبل التاريخ وصولاً إلى العصر الحديث، عبر مشاهد عدة وتماثيل شمعية نُحتت بإتقان بأيدي الفنانين حبيب خوري وشوقي أبي حنا.
في ضيافة جبران خليل جبران
يمثل الشاعر والكاتب والرسام جبران خليل جبران قيمة أدبية وفنية كبيرة ليس للبنانيين وحسب، إنما للشعب العربي أجمع، نظرًا لأعماله الخالدة في مجال الشعر، التي تغنت ببعضها السيدة فيروز وأشهرها قصيدة "أعطني الناي وغنِّ"، فضلًا عن مواقفه وكتاباته المناهضة لحكم الإمبراطورية العثمانية في ذلك الحين، والتي ارتكبت جرائم عدة في حق الشعوب القابعة تحت حكمها إبان الحرب العالمية الأولى وما قبلها، بما في ذلك جرائم الإبادة الجماعية للأرمن، وربما من اجل ذلك اختير جبران كي يكون رمزًا لمتحف الشمع مستقبلًا للزوار وهو يجلس إلى بمكتبه محاولًا كتابة بعض الأبيات الشعرية في المشهد الأول من متحف الشمع، خاصة أن المتحف يقع على بعد دقائق من مبنى "عش العصافير" الشاهد على مأساة الأرمن والشارع الذي سُمي باسمهم "أرمينيا".
يمثل جبران خليل جبران قيمة في أدبه وفنه المتمردين على سياق عصره، وفي مواقفه المناهضة للحكم العثماني
أسّس متحف الشمع على شكل مغارة أو كهف دائري بإضاءة خافتة وأنوار بسيطة، تضيء المشاهد والتماثيل الشمعية وراء الزجاج. يتشكل المتحف من قرابة 23 مشهدًا تاريخيًا بإجمالي 129 تمثالًا عكف على نحتها الفنانان حبيب خوري وشوقي أبي حنا لقرابة ثلاثة أعوام، منذ أن أُعلن عن البدء في أعمال المتحف في أيلول/ سبتمبر 1967 حتى إعلان الافتتاح في 28 آب/ أغسطس 1970.
توفي الفنان حبيب خوري بعد عام واحد، وتبقى تماثيل الشمع حية حتى اليوم من صنع يديه، ويتولى شوقي أبي حنا إدارة المتحف وتطويره من بعده.
اقرأ/ي أيضًا: اللوفر أبوظبي ليس مجرد متحف.. عن القوة الناعمة الفرنسية في عهد ماكرون
قليل من التاريخ.. كثير من الفن
على الرغم من أن تماثيل متحف الشمع المعدودة لم تكن كافية بكل تأكيد لتجسيد كل الفترات التاريخية التي مرت على لبنان، إلا أنها اختارت أبرز تلك الأحداث لتنقل صورة موجزة عمّا مرت به البلدة، فبعد أن يستقبل جبران خليل جبران الزوار ننتقل إلى المشهد التالي المُجسّد للعصر الحجري وإنسان ما قبل التاريخ، وحياة الإنسان الأولية من الصيد والنحت على جدران الكهوف والاحتماء بها والتدفئة بجلود الحيوانات واكتشاف النار، ثم ننتقل تدريجيًا إلى لحظات تاريخية غير مرقمة كلية بالتصاعد التاريخي، فنرى حضارة الفينيقيين في عدة لوحات تجسد اكتشافاتهم وإنجازاتهم في التاريخ الإنساني كصناعة الزجاج وزخرفته أو بناء السفن والمراكب من أخشاب الأرز والتجول بها للتجارة بين البلدان، وكذلك ثقافة الحكام والعلاقات التاريخية والصداقة ما بين الحضارة الفينيقية والفرعونية، فيجسد أحد المشاهد ملك منطقة جبيل وهو يتقبل إحدى بنات فرعون مصر كزوجة له وهدية مقدمة من مصر. كما لم يهمل متحف الشمع الأساطير القديمة فجسّد أسطورة أدونيس وعشتروت، حيث تتضرع للآلهة لإحياء حبيبها الذي قتله مارس، إله الحرب، متخفيًا في جسد خنزير بريّ.
وهناك مشاهد في متحف الشمع كذلك للتاريخ الحربي للبنان وأشهر المواقف المؤثرة، كالخلاف الذي نشب بين أهالي مدينة صور جنوب لبنان والإسكندر المقدوني حين حاول غزو المدينة عام 332 ق.م، قبل التوجه إلى مصر ليرفض الأهالي تسليمه المدينة، ففرض حصارًا دام لسبعة أشهر رافضًا الاستسلام للأهالي أو الاعتراف بالهزيمة، ثم أخيرًا نشوب القتال بين الإسكندر وأهالي صور ليدافعوا عن مدينتهم ويفضّلون حرق المدينة والانتحار رميًا فوق قوات الإسكندر للتسبب في تكبيده خسائر بشرية على أن يسلموه مدينتهم، كما تقول الروايات.
ومشهد آخر لبعض المحتجين على الحكم العثماني يتصدى لهم جنود أتراك ويلقون القبض عليهم لينفذ بهم حكم الإعدام في 6 أيار/ مايو 1916، ومشهد لأشخاص تم اعتقالهم من السلطة الفرنسية المنتدبة بقلعة راشيا في العام 1943 قبل استقلال لبنان.
يروي متحف الشمع في جبيل تاريخًا ممزوجًا بالحكايات الشعبية والأساطير والسير
أخيرًا لم يهمل متحف الشمع الحياة الاجتماعية والثقافية خاصة في العصر الحديث، فنجد مشهدًا للمطربة صباح في فرح لبناني، وتجسيدًا لحمام تركي لأميرات لبنانيات، ومشاهد من حياة الشعب البسيطة كالمقاهي الشعبية الصغيرة وحياة القرية وعادات أهل الريف الفولكلورية.
اقرأ/ي أيضًا: المتحف الفلسطيني.. صوت الضحية الغائب
وبهذا يحمل متحف الشمع ذخرًا كبيرًا من الفن الممزوج بالتاريخ وحكاياته وأساطيره، مشاهد قليلة تبروز أهم المشاهد الحياتية في التاريخ اللبناني لتعطي صورة سريعة ومختصرة للزائرين عن تطور الحياة، هذا المتحف الصغير وتلك المشاهد القليلة وإن لم تتطرق لأحداث تاريخية عدة، إنما بها الكثير من الفن المتقن لإخراج صورة أقرب للواقع المعيش.
اقرأ/ي أيضًا: