أنت كاتب؟ إعلاميّ؟ فنّان؟ مثقّف؟ لا تكتفِ بنشر صورك داخل المسيرات، فهي ليست بحاجةً إلى أعداد. ألم تلاحظ أنّ بعض المدن أعطتنا انطباعًا بأنّها خرجت كلّها، فلم يبق في البيوت إلّا الأثاث؟ لا تكتف بشتم الجماعة الحاكمة، فثمّة الملايين يفعلون ذلك. لا تكتف بالتّعبئة، فثمّة شباب يتولّون الأمر بشكل يحتاج منك إلى أن تدرسه.
إن تجربة الحراك الشعبي في الجزائر تحتاج إلى المثقفين من زاوية التوثيق لها حتى لا تُنسى لاحقًا، وتأمل معانيها وإشاراتها ليبنى عليها
إنّ تجربة الحراك الشّعبيّ تحتاج إليك من زاوية التّوثيق لها، حتّى لا تنسى لاحقًا، وتأمّل الإشارات المتعلّقة بالتحوّلات الحاصلة في السّلوك والأفكار وروح المبادرة والأفعال وردود الأفعال، حتّى لا تضيع علينا فرصة رَسْمَلَةِ المسعى، والبناء عليه للدّخول إلى مرحلة جديدة يكون فيها المواطن هو سيّد الموقف.
اقرأ/ي أيضًا: حراك الجزائر.. ثورة الشباب على بوتفليقة والأبوية
كما أنّ الحراك الشعبي مُحتاج إليك من زاوية المرافقة الفنّية والجمالية، واقتراح مضامين جديدة، إذ ليس معقولًا أن يتفاعل قطاع واسع من الشّعراء الجزائريين، مثلًا، مع مسابقة منارة المسجد الأعظم، الذّي استهلك المليارات، من غير أن يفتح أبوابه، ويصمتوا داخل هذا الحراك، الذي فتح أبوابًا جديدة، من غير أن يُرافقوه باقتراح شعار واحد.
التقيتُ شاعرًا غاضبًا ممّا أسماه فجاجة الشّعارات المرفوعة في المسيرات، فقلت له إنّ غرقك في البلاغة القديمة وانعدام محاولاتك فهمَ بلاغة الشّارع، وهو يعيش لحظته ويُعبّر عنها، هو ما جعلك لا ترافقه قبل أن يتحرّك وأثناء تحرّكه وبعد أن تحرّك. وإن حدث أن رافقتَ، فبأسلوب قديم لا يتبنّاه هذا الشّارع، لعدم انسجامه مع منطقه الجديد والمبتكر.
لقد كان موقف قطاع واسع من المثقفين مشرّفًا، وهم يصدرون بياناتٍ تبارك الحراك الشعبي وتشيد بسلميته، لكن عليهم أن ينتبهوا إلى أنّ هذه البيانات لم يتمّ تبنّيها شعبيًّا، من خلال مشاركتها على فيسبوك، فبقيت تدور بينهم، في زمن "البارطاج" (المشاركة) حتّى ظنّت قناة الجزيرة أنّ "بارطاجي" مدينة جزائريّة!
علينا الانتباه إلى معطى مهم، وامتلاك الشّجاعة أمام أنفسنا وأمام الرّأي العامّ للاعتراف به، وهو: أنّنا نحن، الذّين نكتب ونمارس الفنون التّقليديّة، احتكرنا مفهوم النّخبة على مدار عقود طويلة، فحصرناها فينًا، واستبعدنا سوانا من أطبّاء ومحامين وطلبة ومهندسي إعلام آليٍّ ومعماريين وطبّاخين ومصمّمين ومدوّنين ورياضيين.
ثمّ راح كثير منّا يستفيد من كونه يمثّل "النّخبة" مع السّلطة الفاسدة، ليسبغ شرعية على فسادها، مقابل تموقعات ومصالح معيّنة، فلمّا أعلن الشّارع عن نفسه، بعيدًا عن أيّة مساهمة منّا في ذلك، أخرجنا رؤوسنا قليلًا في البداية، معتقدين أنّه سيفشل، ثمّ أخرجناها كثيرًا بعد أن تأكّدت لنا قوّة مطلبه وإصراره على تحقيقه.
هل يستطيع اليوم من سفّه منّا الجيل الجديد، فرماه بالسّلبيّة والأنانيّة والفردانيّة والاستقالة المعنويّة والدّوعشة، حتّى صار مصطلح "الوانتوثريست"، نسبةً إلى شعار "وان تو ثري فيفا لالجيري" مكرّسًا، أن يكسب رضا هذا الجيل نفسه بالقول عنه الآن إنّه رائع وحيويّ وفعّال؟
أكاد أجزم أنّ السّلطة الحاكمة اعتمدت في نظرتها على ما كان يُطلقه على هذا الجيل إعلاميّون ومثقفون وفنّانون من الصّفات السّابقة، حتّى ظنّت أنّه جيل نائم وغارق في ألعابه وألاعيبه الصّغيرة، وإلّا ما كانت لتجرأ على أن ترشّح له جثّة تتنفّس.
أظهر هذا الحراك أننا بصدد جيل يعرف المنظومات الحاكمة بما فيها المنظومة الثقافية في حين أن هذه المنظومات ورموزها جاهلة به
لقد أظهر هذا الحراك، من بين ما أظهر، أنّنا بصدد جيل يعرف المنظومات الحاكمة، بما فيها المنظومة الثّقافيّة، فأسّس مواقفه من وجوهها واتجاهاتها بناءً على مواكبة ورصد ومعرفة، في مقابل جهل صارخ منها به، وهذا ما يجعل قدرته على إزاحتها من المشهد أكيدة وواثقة.
اقرأ/ي أيضًا: