يقف مزارع جزائري، انتقل لتوه للعيش في حي باب الواد بالعاصمة، في طابور أمام إحدى الإدارات الفرنسية في حقبة الاستعمار، ينتظر دوره لتسوية وضعيته الإدارية، وتسجيل عائلته، وهنا يتفاجأ العون الفرنسي أن غالبية من قابلهم يملكون نفس الاسم، "محمد"، فظن أنهم يستهزؤون به ويصرحون بغير أسمائهم، هذا مشهد من مونولوج "الجمل الأخير" للمسرحي الجزائري محمد فلّاق، أحد ظواهر الفكاهة/الكوميديا، نموذج نادر، أسس لنفسه طابعًا لم يستطع منافسته فيه أحد.
محمد فلّاق غريب عن أرضه اليوم، غادر الجزائر منذ عام 1995 بعد تلقيه تهديدات بالقتل، لقد كانت تهمته أنه حاول أن يزرع ابتسامة في زمن الموت
محمد فلّاق غريب عن أرضه اليوم، يعيش في فرنسا، حيث يعرض أعماله، وينشر كتبه ورواياته، لقد غادر الجزائر منذ عام 1995 بعد تلقيه تهديدات بالقتل، وبعد أن أخذت موجة التطرف تزهق أرواح خيرة أبناء الجزائر، لقد كانت تهمته أنه حاول أن يزرع ابتسامة في زمن الموت، وأنه حاول تفجير مخيلة وطن سقط في كمين الخوف.
اقرأ/ي أيضًا: تيناريوين.. موسيقى الكفاح
"فلّاق"، هذه الكلمة تحمل معنى في الموروث الشعبي الجزائري، اسم أطلقته فرنسا على جنود جيش التحرير الوطني، والتي تعني "الخارجون عن القانون"، لقد حمل محمد فلّاق معاني التمرد حتى في اسمه. ابن مدينة أزفون الساحلية يشكل مزيجًا سحريًا بين الكوميدي والروائي. تعليمه الأكاديمي الرفيع، واشتغاله في بداياته في المسرح الوطني مع قامات كالمرحوم أحمد بن قطاف وعزالدين مجوبي، الذي اغتالته أيادي الغدر، وهي نفس الأيادي التي نفت محمد فلّاق لكن ببصمات مختلفة.
كل هذه المعطيات جعلت من كوميديا فلّاق تحمل شحنة عملاقة من الرسائل السياسية في قالب هزلي ساخر، وهو الذي كان يؤمن منذ البداية أن الكوميديا سلاح أدبي وفني، وشكل من أشكال المقاومة، يستمد فلّاق أفكاره من العبث الاجتماعي الذي عاشه صغيرًا ومراهقًا في حي باب الواد بالعاصمة، هذا المكان الأكثر حضورًا في أعمال أشهر ممثل "وان مان شو" في الجزائر.
في هذا السياق، يقول الإعلامي ربيع خروف لـ"الترا صوت": "الضحك مسألة بيولوجية عند الجزائري، ضحكتنا صعبة، عصية، وقد نجح فلّاق في سرقتها عن جدارة، ما يقدمه عبارة عن تعرية ليوميات الجزائري، تناقضاته، جزائريته غير المفهومة خارج هذه الحدود، فلّاق يشتغل على التاريخ وعلم الاجتماع وحتى الأنثربولوجيا، فالضحكة التي يبحث عنها هي ضحكة ذكية، وليدة تراكمات وحصيلة مواقف أغلبها سياسية وثقافية. ويضيف: "يمثل فلّاق علامة مسجلة في سجل الضحك والنكتة، علامة جزائرية صارخة وخالصة، تعرية في قالب فكاهي منطلق من الأوساط الشعبية".
اقرأ/ي أيضًا: نيستاني.. فنان إيراني دخل السجن بفعل حشرة
حين يشاهد الجزائري أحد عروض فلّاق، فإنه يجد نفسه داخلها، بكل تناقضاته، لقد كان يغرف من واقع المواطن البسيط، كان يترجم النكت العابرة في أعمال تحمل روح الجزائري ثم يجسدها على الركح بطريقة لا يفقهها إلا هو، بداية التسعينيات كانت قاعات العاصمة تكتظ بجمهور يأتي للاستمتاع بعرضه "كوكتيل خوروتوف" والذي أمكن ترجمتها بـ"خليط الأكاذيب"، أين عالج مواضيع الحب، الكبت، القهر، السياسة، والسخرية من مد المتطرفين آنذاك، لذلك دفع ثمن جرأته، واضطر للهجرة، بعد دخول البلاد في دوامة من الفوضى، أتت على الأخضر واليابس.
طالما آمن محمد فلاق أن الكوميديا سلاح أدبي وفني وشكل من أشكال المقاومة
قبل أن يتوجه فلّاق للاستقرار نهائيًا بفرنسا، أمضى مدة من الزمن في تونس، أين واصل اشتغاله في المسرح، فترة وجيزة جعلته يكوّن علاقة متينة مع المشهد المسرحي هناك، تقول مريم، طالبة مسرح في فضاء "التياترو" بتونس :"الكثير منا يعرف فلّاق ، أنا لا أمل من مشاهدة عروضه، وأكثر ما يشدني في ما يقوم به، أنه يحرص على وضع المشاهد في الإطار التاريخي للعمل الذي يقدمه، فحتی من لا علاقة ولا دراية له بالأحداث يستطيع أن يكوّن صورة متكاملة ليغرق بعدها في هيستيريا من الضحك، ويتلقى بين الفينة والأخرى رسائل مشفرة من مبدع يعرف حقيقة مجتمعاتنا جيدًا".
نادرًا ما نجد ممثلًا يبهر في الكوميديا، ويزاوج ذلك بالكتابة الأدبية، محمد فلّاق صنع الاستثناء، ففي فن المسرح الساخر أنتج "جرجراسيك بلاد"، "الجمل الأخير"، "سفينة لأستراليا"، و"كل الجزائريين ميكانيكيين" وغيرها، أما في الكتابة فكانت له عديد الكتب والروايات، ميزة جعلت من مسرحياته دروسًا في التاريخ أحيانًا، وفي الفلسفة أحيانًا أخرى، يحوز في رصيده ككاتب على: "في الجزائر"،"شارع الحيتان الصغيرة"، "كيف تصنع الكسكس"، "موقد الأحلام البربرية"، والعديد من المؤلفات أخرها رواية "أمل..آمال"، والتي أتت على شكل قصة يسودها حوار محتدم بين شخص متفائل وأخر متشائم، رسالة الرواية كانت واضحة جدًا: على الشعب أن يأمل ويحلم بغد أفضل، الأمل لم يندثر بل هو معلق إلى إشعار أخر، وقد يأتي يوم نحتضنه فيه واقعًا.
في إحدى حوارته قال محمد فلّاق: "أنا أواجه بفني كل المتطرفين الدينيين والأيديولوجيين وصناع الحماقة الإنسانية ومحترفي العنف واللاتسامح والقهر، وإذا كانت سخريتي تذهب بعيدًا أحيانًا فلأن المجتمع أصبح عنيفًا". كان محمد فلاق ولا يزال، عرضة للانتقادات، الكثيرون يرون ما يقوم به سخرية من وطنه وأبناء جلدته، والأمر ليس كذلك، المعضلة أننا لا نود الوقوف أمام المرآة على حقيقتنا، بكل تناقضنا وبكل السلوكات التي ننتجها يوميًا، ما يقدمه فلّاق ناتج من العمق، هو لا يبتكر شيئًا، هو يعري واقعنا بذكاء، ونحن نرفض الحقيقة برعونة. محمد فلّاق، طاقة جزائرية أخرى يهدرها الوطن، مسيرة فنان ومثقف يكتب ويتكلم بطريقته الخاصة عن وطن فقد معالم الطريق منذ زمن طويل.
اقرأ/ي أيضًا: