لطالما أثارني النقاش الذي يدور بين مثقفين وفنانين ومريدين حول من هو الأحق بقصب السبق في عالم الغناء: أسمهان؟ أم كلثوم؟ فيروز؟ صباح فخري؟ لطفي بوشناق؟ جورج وسوف؟ الأسماء كثيرة والمريدون كثر ومتنوعون. فما الذي يقوله هذا التحزب الأعمى؟ الأرجح أنه ليس تحزبًا فنيًا.
العلاقة مع أم كلثوم شأن شخصي، تشبه الغرام، فيما تبدو العلاقة مع كم هائل من الأغاني الحديثة أشبه ما تكون بمتعة الصحبة
لا يضير رياض السنباطي أن يقدم بليغ حمدي لحنًا رائعًا لأم كلثوم. فالسنباطي نفسه قدّم لها أيضًا ألحانًا رائعة. والأرجح أن تقدير المريدين بأن بليغ هو الأهم من رياض أو رياض هو الأهم، لا يغير في معادلة الفنون شيئًا. الموسيقى، شأنها شأن الفنون عمومًا، تستطيع أن تتسع لعدد لا يحصى من الروائع. ولأنها تندرج في باب الفنون، بمعنى أن ما يدفع إلى مقارفتها يتعلق بمزاج أفراد، يقيمون علاقة خاصة بينهم وبين اللحن والصوت والكلمات، فإن التصنيف بهذا المعنى وتصدير بعض الأعمال وأصحابها وتأخير بعضهم الآخر، لا قيمة فعلية له.
نستطيع أن نتعايش مع محبوبين كثر. عشقنا لنجاة الصغيرة لا يقلل من حبنا لأم كلثوم. وعلى النحو نفسه، فإن علاقتنا بملحن لا تتضرر إذا استطاع ملحن آخر أن يبهرنا بقطعة موسيقية أو لحنًا مرافقًا لأغنية.
رغم بداهة ما تقدّم، إلا أن النقاش لا ينفك محتدمًا. وأرجّح أن سبب علو صوت مثل هذه المناقشات وتحزب المريدين الأعمى مرده إلى كم من الأعمال الفنية التي لا ترقى إلى مرتبة الإمتاع أو المؤانسة، لكنها تندرج حكمًا في باب التخفف والإهمال. على هذا يجدر بالمرء وهو يستمع أن يميز بين الحالين. وحيث أن التمييز ضروري وملح في هذا المقام، فإن المرء يجنح غالبًا لتعيين نجم أول وثان ثالث، وطرد آخرين من جنة نجومه.
المستمعون والمريدون يريدون أن يثبتوا مقامًا محسومًا ومقعدًا دائما لنجومهم المفضلين. هذا ضرب من التخوف الدائم في أن يسقط نجومنا الذين نحب أعمالهم في هوة الهواة. وعليه، سنضع أم كلثوم وصباح فخري في الخانة نفسها التي قد نضع فيها إيهاب توفيق. أي أننا دفاعًا عن هوانا في الاستماع إلى إيهاب توفيق سنحشره في الخانة نفسها التي نضع فيها أم كلثوم وصباح فخري. أم كلثوم هي النجمة التي حين نرتبها إلى جانب آخرين تجعلهم نجومًا.
لكننا ونحن نرتب هؤلاء على هذه المراتب وننسبهم إلى هذه الطبقات، ننسى أن علاقتنا بالغناء تتفاوت من مغن إلى آخر ومن عصر إلى آخر. ليس ثمة الكثير مما يجمع "الغزالة رايقة" بـ "أنت عمري". سنستمع إلى "الغزالة رايقة" ونستمتع بالأداء، لكنه ضرب من الاستمتاع يختلف كثيرًا عن استمتاعنا بسماع "أنت عمري".
لم يحدث أبدًا أن كانت أغنية "أنت عمري" جماهيرية ويمكن تردادها والتمايل على أنغامها في طقس حاشد. ثمة سهم مباشر ينطلق من حنجرة أم كلثوم وأوتار الآلات الموسيقية إلى آلة السماع لدى كل مستمع على حدة. هذا ضرب من السماع لا يشترط أن نلتفت، حين نقترفه، إلى الجالسين بجانبنا وحثهم على التمايل والرقص على النحو الذي نجيد القيام به، إذا غلبتنا خفة الإيقاع وصخبه في أغنية "الغزالة رايقة".
تبدو العلاقة مع معظم الأغاني الحديثة أشبه ما تكون بمتعة الصحبة التي نحصّلها حين نكون كثيرين ومتخففين من شؤوننا الثقيلة
العلاقة مع أم كلثوم شأن شخصي، تشبه الغرام، فيما تبدو العلاقة مع كم هائل من الأغاني الحديثة أشبه ما تكون بمتعة الصحبة التي نحصّلها حين نكون كثيرين ومتخففين من شؤوننا الثقيلة وأحوالنا الباعثة على الجد والتفكير. وفي ظني أن هذا التفريق ضروري لكي يتسنى لنا أن نبقى على اتصال بما يعاصرنا.
سنستمع إلى أم كلثوم أو جورج وسوف لأننا كثيرًا ما نقيم مع أنفسنا فقط، وسنرقص على أنغام "الغزالة رايقة"، لأننا أحيانًا نحب الصحبة ونستسيغ الصخب الذي يجعلنا نحسب أن الحياة التي نعيشها قابلة لأن تُترك خلفنا في زوايا البيوت، فالوقت وقت رقص وخفة. ولتنتظر الحياة في الظل إلى أن ننفق طاقاتنا كلها في محاولة نسيانها.