تتجلى بجاحة النظام العالمي في الموقف من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فرغم مزاعم تأييد إجراء سلام عادل يضمن للفلسطينيين حقوقهم وفقًا للاتفاقيات والقانون الدولي، إلا أنه على أرض الواقع يختلف الأمر تمامًا، وتظهر من المجهول التهمة الجاهزة: "معاداة السامية". هكذا الحال مع الولايات المتحدة الأمريكية التي قررت الانسحاب من اليونسكو، لأنها تزعم أن المنظمة الأممية "متحيزة ضد إسرائيل". في السطور التالية تفاصيل أكثر عما يُرجح أنه سبب انسحاب الولايات المتحدة من اليونسكو، أعدها "ألترا صوت" بالاعتماد على مقال نشره موقع مجلة فورين بوليسي.
أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، اليوم الخميس، عن قرار انسحابها من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، مع نهاية العام الجاري. وكان قد سبق لها التخطيط لهذا القرار بهدف توفير المال واحتجاجًا على ما تزعمه الولايات المتحدة من تحيزٍ من قبل المنظمة ضد إسرائيل.
أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية انسحابها من اليونسكو لزعمها أن المنظمة الأممية منحازة ضد إسرائيل!
وجاء هذا القرار مبكرًا عمّا كان متوقعًا، إذ كان الترجيحات تذهب إلى أن إعلان الانسحاب سيتأجل بعد اختيار مدير عام جدبد لليونسكو، المنصب الذي تتنافس عليه وزيرة الثقافة الفرنسية السابقة أودري أزولاي، والدبلوماسي القطري حمد بن عبدالعزيز الكواري، ومُرشَّح الصين وأول المتقدمين للترشح تشيان تانج الذي أدرك خسارته للسباق مُبكرًا إضافة إلى المصرية مشيرة خطاب.
ويُعد هذا القرار علامة فارقة بين الولايات المتحدة والمنظمة التي ساعدتها على التعافي بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال المساهمةِ في توسيع فُرص الحُصُول على التعليم وضمان حرية تدفُق الأفكار. وقد أعربت إيرينا بوكوفا المدير الحالي للمنظمة الأممية، عن أسفها من قرار الولايات المتحدة الانسحاب، قائلةً في بيان لها، إن "الطابع الدولي لليونسكو له أهمية حاسمة بالنسبة لمهامها في تعزيز السلم والأمن الدوليين في مواجهة الكراهية والعنف والدفاع عن حقوق الإنسان والكرامة".
وكانت الولايات المتحدة قد سبق لها أن أكدت محافظتها على حضورها في المنظمة الأممية بصفة دولةٍ مراقبة، بعد انسحابها من العضوية الكاملة.
اقرأ/ي أيضًا: علماء آثار يتساءلون عن حقيقة علمانية إسرائيل
واتخذ وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، هذا القرار منذ عِدة أسابيع، كما أخبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال اجتماعه مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب في أيلول/سبتمبر الماضي، على هامش اجتماع الجمعية العامة للأُمم المتحدة؛ أن واشنطن تُفكِر في مُغادرة المنظمة. وكان ماكرون يسعى للحصول على تأييد ترامب للمرشح الفرنسي لاعتلاء أعلى منصب في اليونسكو.
ومن جانبها، تسعى فرنسا إلى ما هو أكثر من مُجرد دعم الولايات المتحدة الأمريكية لمرشحتها أزولاي، إذ ترغب أيضًا في استمرار المشاركة العالمية للإدارة الأمريكية في المنظمة الأممية، والتي بدت من جهتها غير مُستعدة لذلك.
وقال السفير الفرنسي لدى الأمم المتحدة، فرانسوا ديلاتر، خلال مقابلة صحفية أُجريت معه أمس الأربعاء: "نأمل أن تتخذ الولايات المتحدة قرار الاستمرار في منظمة اليونسكو"، مُضيفًا: "من المهم بالنسبة لنا أن تكون الولايات المتحدة ضمن الأعضاء الدائمين، وعلى الأخص بالنسبة لليونسكو في ظل هذه المرحلة الحرجة"، وذلك من باب أنه "يجب على الولايات المتحدة الاستمرار في تأدية التزاماتها تجاه القضايا العالمية"، فيما يبدو أنها إشارة أيضًا إلى اتفاقية باريس للمناخ التي أعلن ترامب انسحاب بلاده منها لـ"التخلص من الأعباء المالية والاقتصادية التي كانت تسببها الاتفاقية" بتعبير ترامب، ما أغضب المجتمع الدولي، وخاصة دول الاتحاد الأوروبي منه.
لكن إدارة ترامب لم تعبأ كثيرًا بأمنيات ماكرون أو غيره، متخذةً هذا القرار الذي قد يُراد من ورائه إضعاف قيمة المنظمة وفعاليتها دوليًا، من جهة أن هذا الانسحاب يعني تخفيضًا ضخمًا لميزانية اليونسكو التي كانت الولايات المتحدة تمولها بنسبة تصل لـ20% من إجمالي ميزانيتها، فضلًا عن القيمة المعنوية التي تمثلها الولايات المتحدة باعتبرها قوة عظمى في العالم.
سبق للولايات المتحدة أن انسحبت من اليونسكو عام 1984 قبل أن تعود لها مرة اُخرى عام 2003
وقد سبق للولايات المتحدة الانسحاب من اليونسكو، وذلك عام 1984، عندما قررت ذلك إدارة الرئيس رونالد ريغان، في ذروة الحرب البادرة، تحت ذريعة "الفساد المتفشي"، وهو ما اعتُبر حينها ميلًا أيديولوچيًا تجاه الاتحاد السوفيتي ضد المعسكر الغربي، حتى عاد جورج بوش الابن بالولايات المتحدة من جديد إلى المنظمة عام 2003، تحت دعوى "عدولها عن نهجها، وتخليها عن بعض أهم عناصر معاداة الغرب وإسرائيل"، وحينها قال بوش: "سوف تشارك الولايات المتحدة بشكلٍ كامل لأداء مهمتها للنهوض بحقوق الإنسان والتسامح والتعليم".
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة.. تعرية ديمقراطية إسرائيل المتناقضة
إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية قد اقتطعت قبل ست سنوات أكثر من 80 مليون دولار من الأموال المُقدمَّة للمنظمة، وهو ما يعادل 22% من حصتها الإجمالية في تمويل ميزانية اليونسكو، في رد فعلٍ انتقامي على قُبُول عضوية فلسطين بالمُنظمة. وقالت إدارة أوباما حينها إنها قلَّصت من حجم تمويلها؛ لأن قانون حقبة التسعينيات يحظر على الولايات المتحدة تمويل أي مؤسسة تابعة للأمم المتحدة تعترف بدولة فلسطين!
ورغم خفض التمويل، استمرت الولايات المتحدة في عُضويتها بمنظمة اليونسكو، بل كان لها حق التصويت في المجلس التنفيذي الذي يختار المدير العام الجديد للمنظمة. إلا أن الولايات المتحدة استمرت في تأخير واستقطاع عشرات الملايين من الدولارات كل عام، وفقدت حق التصويت في الهيئة الرئيسية لصنع القرار، المعروفة باسم المؤتمر العام، وهي الهيئة التي تعتمد ميزانية اليونسكو، وتُعِد مجموعة البرامج المعنية بالتعليم والعلوم والثقافة حول العالم.
ونتيجةً لتقليص الولايات المتحدة لتمويلها، وتراكُم الالتزامات المالية المستحقة لليونسكو كل عام، والتي تجاوزت 500 مليون دولار، أراد تيلرسون إيقاف هذا النزيف من خلال الانسحاب من المنظمة بشكل كامل.
بالطبع النقود تلعب دورًا في الموقف الأمريكي، خاصة في ظل رئيس كرر بعدد أكبر من إحصائه، كلمة "مليارات" في كل خطاباته تقريبًا. لكن هناك أيضًا جزء أساسي في المشكلة، وهي إسرائيل و"معاداة السامية"، فللمنظمة الأممية موقف أفضل من غيرها من المنظمات الأممية فيما يخص دعم الحق الفلسطيني.
والعالم الماضي، استعدت إسرائيل سفيرها لدى اليونسكو في معرض احتجاجها، بعد أن تمكنت الحكومات العربية داخل المنظمة من الحُصُول على تأييد لقرار إدانة السياسات الإسرائيلية المتعلقة بالمواقع الدينية في القدس الشرقية والضفة الغربية.
كما أعلنت اليونسكو في تموز/ يوليو الماضي، أن المدينة القديمة في الخليل بالضفة الغربية، والتي تضم الحرم الإبراهيمي الشريف، هي أحد مواقع التراث العالمي الفلسطيني، وهي الخُطوة التي رأى فيها الإسرائيليون نفيًا لعلاقتهم بالمدينة المقدسة، وهو بالفعل ما تضمنه قرار اليونسكو الذي اعتبر إسرائيل مُحتلة للأراضي المقدسة، وعليه أدانت الحفريات التي تقوم بها سلطات الاحتلال هناك.
في التسعينيات صدر قانونا يمنعان حكومة الولايات المتحدة من دعم أي منظمة أممية تعترف بالدولة الفلسطينية!
بالطبع تعتبر إسرائيل قرارًا مثل ذلك ضربًا ببكائياتها المزعومة عرض الحائط، وكالعادة ثمة تهمة جاهزة لوصم قرار اليونسكو، وهي "معاداة السامية"، إضافةً لبعض التهديدات بتأثير تلك الخطوة على محادثات السلام. أما بالنسبة للولايات المتحدة فإنه مُثير للاهتمام استمرار العمل بقانونين صدرا في التسعينيات يحظران تمويل أي منظمة أو هيئة أو وكالة وإن كانت أممية، تعترف بلفسطين، فضلًا عن الاعتراف بحقها في أراضيها وبقاعها المقدسة، بالتوازي مع مزاعمها المستمرة بدعمها إجراء عملية سلام عادلة في المنطقة!
اقرأ/ي أيضًا: