يُخصص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعية، كل جمعة، للفنّ التشكيليّ كي يحدّثنا أهله عن عوالمهم ومعنى أن نكون فنّانات وفنّانين. إنها محاولة لاكتشاف التجارب عبر العودة إلى بداياتها، والوقوف على تحولاتها وما ظل ثابتًا فيها، مما يجعلها مقاربة للسيرة، أو نبشًا في خلاصتها.
ناصر حسين فنان تشكيلي سوري من مواليد حلب عام 1971. حصل على شهادته في الفنون الجميلة من جامعة دمشق في سوريا عام 1997، ثم انتقل إلى ألمانيا بين عامي 2002 - 2006 ليُكمل دراسته في أكاديمية دوسلدورف للفن. شارك في العديد من المعارض الجماعية في حلب وعمّان وبون وبروكسل ودمشق وإسطنبول. كما أقام عددًا من المعارض الفردية في عمّان ودمشق وبيروت وبرلين.
- متى وجدت نفسك فنانًا؟ وما الذي يعنيه ذلك؟
تعلّقت بالرسم منذ الصغر، ومن وقتها وأنا رسّام. أستعير هنا وصف أستاذي لنفسه بـ"الصانع"؛ أنا أيضًا صانع لوحات إن صح التعبير، صفة رسام أراها واضحة أكثر من صفة فنان، وأعرف موقعي تمامًا من خلالها. صفة فنان مبهمة بالنسبة لي حتى أني لا أعرف بالضبط ما هو الفن، ولا أعتقد أن أحدًا يستطيع أن يعرفه. أشعر أن صفة فنان تجارية، تشبه أي ماركة، بينما رسام واضحة وصافية.
أهمية الرسم بالنسبة لي تأتي من العجز عن إيجاد حياة متوازنة، لـ مندريان رأي في هذا: "إن الفن سيختفي عندما تصل الحياة إلى درجة أعلى من التوازن".. هو يرى في الفن وسيلة لإيجاد التوازن. قال لي مرة أستاذنا الياس زيات: "نحن نمارس مهنة لا يحتاجها أحد". وهذا صحيح، لكن في الوقت نفسه تستحيل الحياة بدون الفن.
نعم أشعر بأني محظوظ لأني رسام، محظوظ أيضًا لتعاملي اليومي مع وسائط رقيقة ورهيفة.
- ما هو الشكل الفني الذي انشغلت فيه، ولماذا هو بالذات؟
ما زلت أؤمن بالرسم وأحب رسم الأشكال، لذلك لم أتخل عنه. هناك عدد كبير من الملوّنين ينتجون لوحات لا رسم فيها، قسم منهم ربما لأنه تجاوز الرسم، وآخرون ربما لأنهم ليسوا قادرين فيه.
أرسم أشخاصًا بمزاج شعري وساخر، أشخاص في لحظات عزلتهم التامة، ومشاهد لا تراها بالواقع إلا نادرًا، لكني أحاول في رسوماتي أن تكون تلك المشاهد ممكنة. أتذكر أني كنت مع أستاذي وصديقته عام 2005، في متحف مبني في الطبيعة بقرب الحدود الألمانية الهولندية. كان يومًا حارًا من أيام الصيف، وفي طريق العودة بسيارة أستاذي شاهدنا مجموعة من الأبقار تجلس كل منها تحت ظل شجرة هربًا من أشعة الشمس، إلا بقرة واحدة كانت تجلس تحت عمود كهرباء معتقدة أن العمود شجرة ولها ظل. وقد اشتغلت من إيحاء هذا المشهد عددًا من اللوحات.
لكن بالنسبة لي كل ما أنتجه لا يهم أن يكون له معنى، المعنى بالنسبة لي هو في الشكل.
- هل يعتمد منتجك الفني على الاستيراد من العالم الخارجي أم على التصدير من عالمك الداخلي؟
الحالتان متداخلتان. أنا رسام مرسم، أرسم داخل غرفة مغلقة ما رأيته خارجها، أمزج مع اللون ذكريات عتيقة وأمزج معهم أيضًا الخيال. أُنتج في مرسمي مشاهد رأيتها فعلًا، وأحيانًا أخرى أبتكرها، لكني لا أظن أن هناك خيالًا مبدعًا جاء من الفراغ، حتمًا هناك مواد عتيقة في روحنا وعقلنا يتغذى منها خيالنا.
- هل هناك نقاط تحول أثرت بإنتاجك، سواء كانت أعمالًا فنية أو أشخاصًا أو كتبًا؟
دراستي في "أكاديمية دوسلدورف" كانت نقطة تحول كبيرة في حياتي وإنتاجي. كنت زميلًا لطلاب من بلدان مختلفة ومتنوعة الثقافات، وقتها درست بمرسم فنان نمساوي شهير اسمه زيغفرد انتسينغر، كان أستاذًا مهمًا، صاحب شخصية لطيفة وطيبة، تعلّمت منه الكثير، كان لديه حساسية من رسم الأشكال بشكل مفتعل أو مبالغ في عاطفتها، وقتها كنت أحتاج هذا الرأي.
قبل فترة دوسلدورف، درست في مرسم دانييل هيس في "جامعة زيغن"، هيس عزز لدي الحرص فقط على المعلومات المهمة في اللوحة، وتجنّب الاستعراض المبتذل.
قبل ألمانيا كانت دراستي عند نذير نبعة، بكلية الفنون بدمشق. بفضل هذا المعلم الفذ، أصبح الرسم شغفًا يوميًا. وبدون مبالغة، كل أساتذتي موجودين في مرسمي، وأشعر أني أحاورهم مع كل عمل جديد.
- إذا كان العمل الفني لغة بصرية فما هي مفردات هذه اللغة؟
العمل الفني هو مشهد بصري، حتى أنه لا يحتمل حسب اعتقادي أن يكون له عنوان؛ هو ليس نصًا ليكون له عنوان، وهناك من يرفض مقولة "قراءة العمل الفني" لأنه ليس نصًا ليُقرأ، فهو يشاهد بالعين والروح. ومفرداته الكتلة والفراغ، اللون والخط، النور والظل، إلخ.
عدا ذلك، يجب أن تكون هناك التلقائية بالرسم والتلوين، الفرادة والخصوصية، العاطفة المنضبطة، وعدم الإفراط بالمعرفة والثقافة في عمل واحد وتجنب الاستعراض.
- ما الذي تغير فيك؟ وما الذي ظل ثابتًا؟
أشياء كثيرة تغيّرت مع الوقت، ما عادت أحلام الماضي موجودة، وأدركت أنه يجب على الفن أن يكون ذا جدوى. اكتشفت أن الفن لا ينفعني في شيء غير التمتع به، وهذا جدواه، وأنه مع اللوحة لا توجد غاية تتجاوز المتعة، هذه بالنسبة لي ليست اكتشافات بسيطة، لأنها أثّرت في شكل لوحتي، وأيضًا بمتعتي بالرسم وشغفي به. أدخل اليوم مرسمي ناشدًا اللذة فقط.
في تاريخ الفن، كان هناك رسام ألماني اسمه أدولف مينزل مات بداية القرن العشرين، دخل مرة إلى مطعم وكان عجوزًا، طلب من النادل أن يحضر له ديك حبش، وأثناء تحضيرهم لوجبته غفى مينزل ونام وهو جالس على الكرسي. وعندما استيقظ، كانت وجبته قد بردت، فرسم الديك على دفتر اسكتشاته وخرج.