ينحاز مسلسل التغريبة الفلسطينية إلى فضاءاتٍ تتسع من حيث يُظنّ أنها تضيق؛ إذ لا تتوقفُ الأحداثُ التي يرويها عن ملاحقة متلقييه حيثما حلّوا، ليسبغَ على دواخلهم عواطفَه التي لا تستطيع أن تتخلص من صفاتها القلقة المتشابكة. يبدو هذا جليًّا في ذلك القطاع الواسع، من داخل المكان الذي شكّل محور الحدث، وحتى من خارجه، الذي صار العمل ذاكرة له من حيث لم يكن يملك ذاكرة عن حدث التشظي جراء النكبة.
مسلسل التغريبة الفلسطينية أنه يقدّم قصصًا تبدو بسيطة، لكنّ بنية السرد وعمق الحوار وعبقريّة الإخراج تجعلُ من هذه القصص مرجعياتٍ تسبر عمق القضية الكبرى
المسلسل الذي كتبه د. وليد سيف وأخرجه الراحل حاتم علي، وأنتجته شركة سورية الدولية سنة 2004م، وقام ببطولته كلٌّ من: جمال سليمان، تيم حسن، رامي حنا، جولييت عواد، خالد تاجا، نادين سلامة، وآخرون، يقدّم قصصًا تبدو للوهلة الأولى بسيطة، ولكنّ بنية السرد وعمق الحوار وعبقريّة الإخراج تجعلُ من هذه القصص مرجعياتٍ تسبر عمق القضية الكبرى التي يهتمّ العمل بطرح أسئلتها والإجابة عن هذه الأسئلة في معظم الأحيان. تبدو قصص العمل للتوّ خارجة من الحاضر، رغمّ أن العمل نفسه يُصنّفُ على أنه تاريخي، لكنّ التاريخيّ هنا ينتظمُ مع الخاص في توليفةٍ تستمدُّ ألَقها من الأحداث التي تتشابه مع الحاضر في إطارها العام. يمهدُ العملُ لبنيتهُ الحكائيّة جيّدًا، منطلِقًا من حدثٍ غير مألوف للعين التي تشاهد العملَ لأول مرة، حيث يبدأ المشهدُ الأول -قبل بداية تتر المسلسل- بموت الشخصية الرئيسية أبو صالح، ولكنّ المشهد الأول الذي تبدو من خلاله الشخصيات عائمةً في فضاء واسع ينجح في بسط خطوط العمل الدرامية من خلال لبنة السرد الأولى، والتي تتمثل في وصفٍ ملحميّ من قبل الراوي علي لملامح الشخصية الرئيسية: "رحلَ الرجل الكبير، وتركني وراءهُ أتساءلُ عن معنى البطولة. أخي أحمد "أبو صالح"، لن تُعلن خبرَ وفاتهِ الصحفُ والإذاعات، ولن يتسابقَ الكُتّاب إلى استدعاء سيرتهِ وذكرِ مآثرِه؛ وقريبًا يموتُ آخرُ الشهودِ المجهولين، آخرُ الرواةِ المنسيين، أولئكَ الذين عرفوه أيام شبابهِ، جوادًا بريًّا لم يُسرجْ بغيرِ الريح؛ فَمن يحملُ عِبءَ الذاكرة؟ ومن يكتب سيرة من لا سيرَ لهم في بطونِ الكتب؟ أولئكَ الذينَ قسّموا جسومهُم في جسومِ الناس، وخلّفوا آثارًا عميقةً تدُلُ على غيرهم ولكنّها لا تدُلُّ عليهم!". في هذا النص، الذي يبدو خارجًا من رواية ملحمية، يبدأ انغماسُ المتلقي في دهشةٍ لا تنفكّ تلمسُ دواخلهُ ومشاعره، وعلى مدار الأحداث، تخرجُ لنا نصوصٌ أدبيةٌ أخرى تجعلُ من الناس الذين تحكي عنهم عوالمَ تشرعُ لنا أبوابها. ويبدأ العمل فيما بعد ببناء الأحداث والشخصيات على مهل، أي دون أن يبدو فجًّا أو مملًّا.
اقرأ/ي أيضًا: حاتم علي.. في ضرورة القراءة
المتن الحكائي والبنية السردية
يروي المسلسل المآلاتِ المفجعة لشعبٍ كامل، من خلال تناوله حدث النكبة والإرهاصات التي سبقته ، حيث يقتطع من تلك الشريحة الواسعة أسرةً ريفيّة مكونّة من: أبٍ وأم وأربعة أبناء وابنة، يجمعهم حيّزٌ واحد في بداية العمل، حيث تتمثّل قضيّتهم المحورية في الظلم الذي يستبدّ بهم من شخصيتيْ: الإقطاعي أبو عايد، والمختار أبو عارف، والذي يجعل شعورهم بالظلم الواقع عليهم متعمّقًا هو محاولتهم إثبات انتمائهم لحمولة كبيرة، اقتطعوا منها قسرًا... ويرصدُ العمل من خلال تحولاته الدرامية أنواعًا أخرى من الظلم، تتوزع بين ظلمٍ شخصي (الظلمُ الذي يتعرض له أحمد من أبو عزمي العلي، مثالًا)، وظلمٍ مجتمعيَ (قصة جميلة وحسن، مثالًا)، بالإضافة إلى الظلم الجمعيّ (النكبة ومآلاتها، الاحتلال الإنجليزي، مثالًا) الذي يُلقي بثقله وظلاله على الجميع، كما يرصدُ أيضًا حياة الفلسطيني بوصفه إنسانًا قبل كلّ شيء، متمثّلة بيومياته، أحزانه وأفراحه وخيره وشره، وتناقضاته في أحيان كثيرة، مرورًا بالتشظّي المكاني الكبير، الذي أعقب حدث النكبة، وانتهاءً بحدث النكسة. أما عن طريقة العمل في بناء المتن الحكائي، فإن العمل تتبع النسق الذي يراعي وقوع الأحداث ضمن تسلسلها المسبَّب المنطقي، وفي أُطرها الزمنية الحقيقية التي أنتجتها. وفي أثناء رصده لهذه التحولات، الشخصية والجمعية، تنبثقُ دائماَ القيمة/الرسالة التي يسعى العملُ لإيصالها، بطريقة سلِسة لا يجد وعي المتلقي ثقلًا في لمسها والتشبّع بها.
تتكئُ بنية العمل، على شموليةٍ تُغذي تفرّده وجماليته. يبدو مسلسل التغريبة الفلسطينية بعد انتهاء حلقاته التي بلغ عددها إحدى وثلاثين حلقة، شكلًا روائيًا متناسقًا، تنتظمُ أجزاؤه ومساراته ضمن بُنية متكاملة، يمكن وصفها بأنها روابط هندسية، تتفاعلُ فيما بينها لتتكامل. يحيلُ التفاعلُ المضبوط ذاتيًا بين مسارات القصص إلى أحداثٍ عبقريةٍ وحواراتٍ تجعلُ من المتلقي، كلّه، أذنًا صاغية وعقلًا يندمجُ بلا وعي في أغوار شخصياته. ولمّا كان العملُ الأدبيّ بشكله الأوسع موسومًا بعناصره المتشابكة في بنيته ومنحازًا إلى الشرط الجماليّ الذي لا بدّ وأن يحضر فيه، كان مسلسل التغريبة الفلسطينية كذلك؛ إذ إنه لا يكفّ في كلّ مشهد عن استنباط الجماليّ من الواقعي حتى أنه ليستحيل على المتلّقي في كثير من الأحيان أن يفكك جماليته إلى عناصرها التي شكلتها.
يبدو مسلسل التغريبة الفلسطينية بعد انتهاء حلقاته شكلًا روائيًا متناسقًا، تنتظمُ أجزاؤه ومساراته ضمن بُنية متكاملة
لا يُحمل السرد ولواحقه على الشكل الروائي وحده، بل يمتدّ ويتسع ليُحمل "على اللغة المنطوقة، شفويةً كانت أو مكتوبة، وعلى الصورة، ثابتة كانت أو متحركة"، كما يقول رولان بارت. بهذا، تكون السردية التي تكوّن هذا العمل الدرامي جامعةً بين اللغة والصورة، بحيث يمكن الادّعاء بأنّ الصورة هنا تمتزج بين العام والخاص، الصورة العامة أو الخارجية التي أبدعها الراحل حاتم علي، والصورة الجوانيّة التي رصدت العواطف وفضاءات الحواس والتي خلّقها د. وليد سيف، وأتقن رسمها الممثلون. أما اللغة الشفوية فإنها تتمثّل في الحوار بين الشخصيات ذاتها، والذي كان عاملًا محوريًّا في رسم ملامح عوالمها الداخلية.
اقرأ/ي أيضًا: الدراما العربية في ذكرى النكبة.. من "التغريبة الفلسطينية" إلى "صفقة القرن"!
التوتر الزمني وانفجار العقدة
يبدو الزمن الذي تدور في فلكه حكايات التغريبة الفلسطينية زمنًا دراميًّا بامتياز، إذ إنّ الأحداث التي توتّره كثيرةٌ ومفاجئة، بصفة وجود الاحتلال الإنجليزي في حيزه حتى منتصف العمل تقريبًا وبصفة الجهل المجتمعيّ الموسوم به في تلك الفترة بتكثيف مخيف. وحين ينتهي زمن الاحتلال الإنجليزي، يزداد تكثيف الخوف، حيث ينفتح المشهد بتمهيداتٍ متباطئة على توحشٍ العصابات الصهيونية، من خلال التطرّقٍ لها في الحكايات اليومية، ومن خلال إدراج صورٍ لضحاياها. ويستمرُّ تصاعد الحبكة الكبرى حتى تصلُ إلى ذروتها المتمثلّة بسقوط المكان الأصليّ لشخوص المسلسل، وهو القرية، ذلك السقوط الذي رصدته الكاميرا بحرفية عالية، محافظة على إيقاع منتظَمٍ يتراوحُ بين تصاعد الحدث وذروته ثمّ رجوعه إلى قلقه الأصلي، ولكن هذا القلق يخرجُ إلى نفس المتلقي، حاملا معه مشاعر لا تنفكّ تجرحه، وتعيدُ إليه أحداث النكبة بفجائعيةٍ خانقة.
الملاحظ في طريقة تقديم العمل لأحداثه، هو أن بعض قصص العمل أخذت منحىً مستقلًّا عرض مشاهدها، إذ قدّمت بعض هذه القصص، والتي اتسمت بنهاياتٍ سوداوية، اثنتان منها فاضت منها رائحة الموت (قصة مقتل جميلة، وقصة موت سعيد في صحراء السعودية) بتتابعية، لكنّ هذا التتابع لم يكن فجًا، إذ إنه أعطى ترسيخًا لقصص شخصياته، بحيث لا يقطعُ هذا الترسيخ تفكك في بنية القصة المتتابِعة، فيزيد هذا التتابع من تكثيف المعاني المستخلَصة منها.
فلسفة الحب...مقارنات لا بدّ منها
يقدّم مسلسل التغريبة الفلسطينية، بوصفه واقعيًا، قصص حبّ تتسللُ من بين أحداثه وشخصياته؛ وهو أمرٌ اعتياديٌّ لا يتوقف على حضوره في الرواية أو العمل التلفزيوني، إنما هو من لوازم الحياة وثيمات قصصها، لكنّ الأمر الذي يقف عنده المشاهِد، هو الوعيُ الذي ينبثق في نفس المتلقي؛ جراء توليفة القصص ورسائلها.
يمكنُ حصر قصص الحب في هذا العمل بخمس قصصٍ تتوزع على خمس ثنائيّات، بالترتيب السرديّ لظهورها: خضرة والعبد، حسن وجميلة، سلمى وعليّ، صالح وصبحيّة، وأخيرًا: صلاح وناديا. وإذا نظرَنا في نهايات القصص، سنجد أن ثلاثة منه لمْ تُثِرْ ضجّة اجتماعيّة، تلك القصص التي انتهت نهاية سعيدة بالزواج، والتي اتسمَّ أصحابُها بالعقلانية في عيشها وفي التعامل معها؛ بينما نلحظُ أن القصص التي أثارت ضجّة اجتماعية حكمَ المجتمع –ضمنًا- عليها بالقتل والإجهاض، وكان القتل في إحداها حقيقيّا لأحد أطرافها، وهي جميلة. وهذا، وإن كان لا يُعفي المجتمع من مسؤوليته الأخلاقية عن نهاياتها، إلا أنه لا يُعفي أصحابها كذلك من خطأ التعامل مع سيرها بنبرة تحدٍّ صارمة، تجلّت في قصة صلاح وناديا، والذي أراد الكاتب تبيانها في الحوار الذي دار بين رشدي وصلاح، حيث يقول رشدي لصلاح:
- تحديك لأهلها، كيف كان ممكن يخدم هذا الهدف (الزواج)؟ مفكرتش بكل هالأشياء!
ولأنّ الحبّ لا يمكنُ أن يتخلّى عن الأدب بوصفه متعلِّقًا جماليًا لا ينفكّ عنه؛ كان لا بدّ من حضور الرسائل أو حتى كلام الغزل فيه في معظم ثنائيات القصص التي تناولها العمل. كان حضورُ الرسائلِ أمرًا ممتعًا للغاية، الرسائل التي كتبها الشاعر وليد سيف على لسان شخوص العمل، حضرت في اثنتين من هذه القصص، كما أن قراءة الرسائل بلسان تلك الشخصيات، خلقت فضاءً من المشاعر الإنسانية، ومن تلك الرسائل: "أفكّرُ فيكِ فتشتعل الخُضرةُ في الأرض اليباس، ويستيقظُ النخيلُ ملء روحي وملء الصحراء؛ أفكّر فيكِ فيدرُج القمرُ على الدروب، يُطاردُ الصبايا، ويوزّع الكعكَ والعيد، أفكّرُ فيكِ فتقترب النجوم من يديّ ويحوّل النهر مجراهُ إلى بابي، وتتبعني الفراشات المضيئة إلى داري، وتلتجئ القبّراتُ إلى كتفي وذراعي، ويمتدّ البحرُ إلى شرفتي، وتستريحُ الغزلان في ظلّ قامتي".
يمكنُ حصر قصص الحب في مسلسل التغريبة الفلسطينية بخمس قصصٍ تتوزع على خمس ثنائيّات: خضرة والعبد، حسن وجميلة، سلمى وعليّ، صالح وصبحيّة، و صلاح وناديا
يُحيلُ التفكير في دواخل بعضِ أطراف القصص إلى لمسةٍ نهائية عن طبيعة حبّها؛ فمثلًا، نرى في تخلّي ناديا عن صلاح، ومراسلة شابٍّ آخر بعد نهاية القصة نفسها، ملمحًا يشير إلى التوهم وصفة المراهقة في تلك المشاعر الطارئة، بينما يتسمّ حبّ سلمى لعليّ بواقعيةٍ نستشفّها من حواراتهما عن الفروق الاجتماعية، وإصرارها على أن تلك الفروقات لا ينبغي لها أن تشكّل حاجزًا يمنعُ هذه المشاعر من الوصول لطريقها الصحيح، ونرى بوضوحٍ ظاهر أن حبّ سلمى كان حقيقيًّا، حيث إنّها احتفظت بمشاعرها المعلنة لعليّ خلال سنوات دراستهما الجامعية، والتي امتدّت لستّ سنواتٍ، وكان عليها في نهاية هذه المدة أن تواجهِ النظرة الاجتماعية من قبل عائلتها لأهل المخيّم، بحوارٍ عقلانيّ بعيدٍ عن نبرة التحدي والصراع.
اقرأ/ي أيضًا: حاتم علي و"التغريبة الفلسطينية".. ماضٍ يُلاحق الحاضر
حضور الرمز في التغريبة الفلسطينية
يمكن التمثيلُ على استخدام الرمز في مسلسل التغريبة الفلسطينية بحضور البندقية، التي جمعت ثلاثة شخوص من شخصيات العمل، وكلّهم استخدمها في مقاومة المحتل. تربط بندقية "العبد" بين الأزمنة التي كانت المقاومةُ فيها حاضرة بصفة جماعية، حيثُ يحضر أول وجودٍ لها قبل استشهاد صاحبها بفترة وجيزة -ربما ما يُقدَّر بعام 1944م- حين باعت خضرة ذهبها ليشتري زوجها بندقية أخرى، بعد أن أصبحت الأولى، كما وصفها: "بتعلِّق بنص الضرب"، فآثرت خضرة سلامته على "صيغتها"؛ ولكنّ المفارقة تحدث عند المعركة التالية، إذ إنّ البندقية لم تحمِ صاحبَها من رصاص الإنجليز، وهذا ربما يدلّل على أنّه ليس من المفترض أن تحقق لنا المقاومة نصرًا دائمًا، وإنما ينبغي أن نقاوم ونجاهد على أية حال. أمّا الزمنُ الثاني الذي حضرت فيه "بندقيّة العبد" فهو زمن النكبة، وكان حضورُها لافتًا، حيث يبدأ حسن بالتفكير بأيّ فعلٍ مقاومٍ، سواءً كان هذا الفعلُ اعتياديًا، أي ببندقية، أو هجوميًّا لا نجاة منه، وذلك حين يهددّ بالذهاب إلى أيّ مستعمرة قريبة في فعل أشبه بشهادة مؤكّدة؛ وتصفُ المشاهدُ اللاحقة سرقة المقاومة، المتمثّلة بالبندقية، من خلال شخصين يستخدمانها لخدمة مصالحهما والتجارة بها! يحضر مشهد رؤية البندقية المسروقة، باحتفالية بها لا يخفى على المتلّقي أنها احتفاليةٌ ترسّخ للجهاد بغنائيةٍ ريفيةٍ فلسطينية متميّزة، تقول كلمات الأغنية الشعبية، التي كتبها الشاعر علي فودة، فيما يبدو دعوة للحفاظ على نهج المقاومة:
"بارودته بيد الدلّال رأيتْها
لا عاش قلبي ليش ما اشتريتْها
بارودته لقطت صدى ع ترابها
لقطت صدى واستوحشت صاحبها"
يستشهد حسن، في مشهدٍ لم تستدعِه مشاهد المسلسل. ترسَّخ رمزية الحفاظ على النهج المقاوم من خلال حرص الشهيد حسن، على إيصال إرث البندقيّة إلى رشدي. بعدها، في زمنٍ يتصّف بركود المقاومة، تتعطّل وظيفة البندقية، ولكنّ حضورها يطلّ بين الفينة والأخرى، إما من خلال مشاهد "الفلاش باك"، أو من خلال شخصية رشدي، ابن العبد، الذي ينطلق بها في نهاية الحلقات، مجاهدًا على أنغامٍ احتفاليةٍ أيضًا. وفيما بعد، في القصةِ التي لم تُروِ في المسلسل، يُحكمُ رشدي بالسجن مدى الحياة.
تفاعل الشخصيات وتحولها
ينطوي العملُ الأدبيّ –عدا الشعر- بوصفه تمثيلًا لمزيجٍ من الواقع، ولكن بشخصيّاتٍ –في معظِمها- خياليّة على توليفةٍ لا بدّ أن تُبنى بشكلٍ هندسيّ. أحد أعمدة البناء تلك هي الشخصيات، التي تتفاعلُ فيما بينها لتشكّل حدثا ما، أو التي تنتجُ ردودُ أفعالها عن حدثٍ معيّن. في التغريبة الفلسطينية، يمكن حصر الشخصيات المحورية في شخصيات العائلة (أحمد "أبو صالح"، مستورة "أم أحمد"، صالح اليونس" أبو أحمد"، مسعود، حسن وعلي وخضرة) على الأقلّ حتى منتصف حلقات المسلسل، هذه الشخصيات، التي كان بناؤها محكمًا بحرفيةٍ عالية، رُسمت فيها ملامحها وصفاتها وحتى ردود أفعالها، بدا تفاعلُها محكومًا بظروف العائلة والقضية. فعلى سبيل المثال، نرى العلاقة التي حكمت الطفلين: حسن وعلي، في بداية الحلقات علاقة عميقة حتى أنه يستحيل التنبؤ بتفرّقهما، لكنّ العلاقة تبدأ بالضمور، مع ذهاب عليّ إلى المدرسة، وبقاء حسن، رغمَ أن حسن نفسه هو الذي دبّر لذلك، مؤثرًا أخاهُ، ولكن كان لا بدّ من ثمنٍ يُدفع، فكانت النتيجة تحولٌ محزن في شخصية حسن وفي حياته نفسها، أما الثمن الذي دفعه عليّ، فكان شعوره الدائم بالذنب، حتى أنه خُيِّل إليه أن كلّ إنجاز يحصل عليه بجهده فإنه يأخذه من حسن!
تبدو شخوص التغريبة الفلسطينية خارجةً من مفارقاتٍ حكَمتها، حيث كان تحول بعضها صامتًا وهادئًا، تمثّل هذا النوع من التحول في شخصية رشدي، فقد حوّلته مآلات القضية إلى شخصٍ أقرب إلى الغموض، وقابل هدوءه الظاهريّ انفجارٌ جُوّانيّ أنتجَ فيه عمقًا تنتفي عنه صفة التعقيد، يظهر ذلك في حواره مع صلاح، حين يقول:
- التعقيد مكياج، ادّعاء، انتفاخ ثقافي كذّاب، بيدلّ إنه الشخص بيحمل هم صورته كمثقف أكثر من همّ الثقافة نفسها!
خاتمة
كانت ذاكرتُنا عن النكبة مفرغةً إلّا من صورٍ قليلة استدعيناها من الأرشيف الصوريّ، لكنّ مسلسل التغريبة الفلسطينية أصبحَ هو ذاكرتنا المرئية، الذاكرة التي تُستدعى فتوجِع، وتحضرُ فتُبكي، وتجسِّدُ أجدادنا فيحضُرون بمآلاتهمُ الصعبة.
كانت ذاكرتُنا عن النكبة مفرغةً إلّا من صورٍ قليلة استدعيناها من الأرشيف الصوريّ، لكنّ مسلسل التغريبة الفلسطينية أصبحَ هو ذاكرتنا المرئية
التغريبةُ ماضينا المُخيف، يُشبهُ الأمرُ أن تنسى جسدكَ مفتوحًا بجراحاتهِ الدامية، مفتوحًا للذباب يمتصُّ منهُ ما يشاء، ومع الوقتِ تنسى، لكنّ أحدًا ما يدسّ إبرةً كي يخيطَها؛ فتصرخ. كانَ النسيان أملك، فغدا لك مع اندساس الإبرة أملٌ آخر.
اقرأ/ي أيضًا: الدكتاتور العربي في دراما وليد سيف
تحضرُ العائلةُ بأعماقها، كلّهم تستدعي فيهم ملامحَ مرّت عليكَ من قبل، كلّهم يعذّبهم شيءٌ ما، بل أشياءُ كثيرة. على مدارِ ستة عشر عامًا ظلّت التغريبةُ حنينُنا الأبديّ، لا أدري كيف يحنّ المرءُ لوجعه! لكنّها مفارقةّ إبداعية اختلقها مؤلّفٌ عبقري، وأخرجها مبدعٌ موهوب. وإلى الأبد، سيظلّ شيءٌ ما فينا يُحيلُنا إليها كشاهد حيّ على مأساةٍ مُتعَبة.
اقرأ/ي أيضًا: