وجد الكثير من متابعي المسلسل التلفزيوني" فرويد"، الذي انطلق عرض حلقاته الثمانية على نتفليكس في آذار/مارس 2020، أنفسهم نهبًا لمشاعر الإحباط أمام حجم التوقعات التي أمِلوا بالحصول عليها، ذلك أنهم بدلًا من أن يجدوا أنفسهم أمام مسلسل درامي يغوص عميقًا في قلب الحياة الواقعية لعالم النفس النمساوي الشهير سيغموند فرويد (1856 ـ 1939)، وجدوا أنفسهم أمام فانتازيا تاريخية لا تفعل شيئًا سوى الاتكاء على جزء صغير من حياة عالم النفس الشاب، لتعيد تصديره محققًا بوليسيًا على غرار شارلوك هولمز. الأمر الذي أعاد طرح السؤال مجددًا عن علاقة الفن بالحياة، هل هو مجرد محاكاة للواقع المعاش، أم حقل خصب لتجليات المتخيل، الغريب والعجيب المدهش، الذي قد يلجأ إليه صاحب العمل الفني للتعبير عن الأفكار والقيم الاجتماعية، التي يحاول تسليط الضوء عليها أو تسويقها؟
تثير مرافعة فرويد واكتشافه الدور الذي صار ينهض به "تالتوزيو الحداثة" أي القادة الثوريين، مخاوف الإمبراطور، لذا يطالبه بالتوقف عن نشر ما توصل له
لم تتوقف خيبة ظن مشاهدين المسلسل من التيمة أو الموضوع عند مشاعر الإحباط وحسب، بل تعدته لتصل إلى رفض المسلسل عبر التشنيع على المواضيع التي يعالجها، وذلك عبر إصرارها المتعمد لتقديم الحَبكة الفرعية لتحل محل الحَبكة الأصلية. فالتيمة الثانوية في العمل المتمثلة بالكشف عن الجرائم المرتكبة من قبل الثلاثي؛ المحلل النفسي فرويد (Robert Finster)، والوسيطة الروحية فلور سالومي (Ella Rumpf)، ومفتش الشرطة كيس (Georg Friedrich)، لا تعمل بمعزل عن الثيمة الرئيسية المتمثلة بتمجيد فكرة التغيير الإنساني التي قد يتصدى لإنجازه أحد أفراد المجتمع البشري وهو في حالتنا العيانية فرويد، الذي نجح في الكشف عن طريقة جديدة لفهم وعينا البشري: "تخيلوا أنني منزل، الظلمة تملأ داخلي، وعيي يضيء وحيدًا. كشمعة في مهب الريح، إنّه يومض تارة هنا وتارة هناك. كل الأشياء الأخرى غارقة في الظلال، ولكنها موجودة، أقصد الغرف الأخرى من منافذ ومداخل وسلالم وأبواب. داخل المنزل الذي يتجسد بكياني".
اقرأ/ي أيضًا: "السكك الحديدية تحت الأرض": أمريكا القاتلة.. أمريكا العنصرية
لا يخلو تموضع الفانتازيا التاريخية ضمن حقبة الإمبراطورية النمساوية - المجرية أواخر القرن الثامن عشر من دلالة، ذلك أن قادة المؤامرة الملكية، الأمير فيكتور والأميرة صوفيا ما هما إلا شخصيتان مجريتان من آل سباري، تلك العائلة التي تم التنكيل بأفرادها جراء انخراطها بالثورة المجرية 1948، التي رفعت مطالب الاستقلال السياسي عن التاج الإمبراطوري النمساوي، إضافة لرفعها مطالب التحرر الاجتماعي والديمقراطي من قبيل توسيع المشاركة الشعبية في الحكم، كما الحد من سيطرة النبلاء عبر المطالبة بإلغاء قانون القنانة الذي كان يشرع استعباد الفلاحين. الأمر الذي يرجح رغبة كتبة سيناريو "فرويد" ربط تيمة التغيير المعرفي الذي كان يتم على يد الباحث الشاب، بتيمة التغيير الكبرى، الثورة أو التغيير الاجتماعي التي أطلقت شرارتها الثورة الفرنسية 1789.
في التفاصيل يعمد الأميران لتدبير مؤامرة ضد الإمبراطور النمساوي محركها الجوهري الثأر لقتلى أفراد عائلتهم من آل سباري، أما غايتها القصوى فهي تحطيم إمبراطورية آل هابسبورغ، بقصد حصول المجر على استقلالها السياسي. في سبيل ذلك سيلجأ الأخوان إلى تأسيس جميعة سرية، ستلعب فيها الوسيطة الروحية سالموي حجر الزاوية عبر تقمصها لشخصية التالتوز. والتالتوز لمن لا يعرفه هو تصور شعبي مجري قديم عن شامان القبيلة أو ساحرها الأكبر، الذي كان ينعقد عليه الأمل بتخلصيها من الأزمات والمصائب الكبرى، وإيصالها إلى بر الأمان.
تفشل مؤامرة قتل الإمبراطور على يد ولي عهده الواقع تحت تأثير التالتوز سالومي، وبالتالي الخلاص المؤقت من الدمار الذي يتهدد الإمبراطورية على يد أعدائها، إلا أن التهديد بالدمار والخراب كما أوضح فرويد للإمبراطور لن يزول، بل سيتخذ أشكالًا أخرى، وإن كان قد تلطى هذه المرة عبر مؤامرة آل ساباري السرية، فإنه سيتجلى لاحقًا في هيئة منومين مغناطيسيين أو محرضين ثوريين. ذلك أن تحويرًا درامتيكيًا قد تم على وضعية التالتوز، فبعد أن كان يتجلى في شخصية الكاهن أو الساحر الأكبر أصبح اليوم يتجلى في شخصية القادة الجماهيريين، الذين لا يقل دورهم في الإحياء والتحريض على الثورة عن دور السحرة في حل المشكلات التي تواجه القبيلة.
تثير مرافعة فرويد واكتشافه الدور الذي صار ينهض به "تالتوزيو الحداثة" أي القادة الثوريين، مخاوف الإمبراطور، لذا يطالبه بالتوقف عن نشر ما توصل له، وإلا كان مصيره الموت. يضع الموقف الطارئ فرويد أمام صراع نفسي حاد، فهل يقبل بالتخلي عن نشر الحقيقة حول ما يؤمن به من معتقدات أو أفكار، أم يختار السلامة الشخصية وينأى بنفسه عن تهديدات السلطة وعنفها؟ يختار فرويد الرضوخ لمطالب السلطة بعدم نشر اكتشافه عن الدور الجديد الذي أصبح يضلع به القادة الثوريين وقدرتهم على الإيماء والتحريض على الثورة، إلا إنه في المقابل يمضي لتعميق معرفته بهذا العلم الجديد، وترسيخه في وعي الناس.
خسر مشاهد مسلسل "فرويد" الفرصة للتعرف على أهم المحطات الدرامية في حياة أبي التحليل النفسي، إلا أنه قد ربح في الوقت معرفته كمحلل نفسي
أثبت المخرج والكاتب مارفن كرين (Marvin Kren) أن لا حدود لقدرة الفن على تجسيد الأفكار المجردة كالتغيير الاجتماعي واللاوعي والفصام، كما أن لا حدود أمام توظيف الرموز الشعبية "التالتوز" ودمجها في السياقات المعاصرة. كما أثبت قدرته على الربط بين الخط الرفيع بين مفهومي التنويم المغناطيسي كما يتجلى بالكشف عن الأزمات النفسية في الكائن الفرد، وبين الإحياء بالتنويم عبر الأفكار، فإذا كان الأول يمثل الصندوق الأسود لتاريخ الأزمات النفسية، فإن الإيحاء بالتنويم يمثل الدور الذي أصبح يضطلع به القادة الثوريين، الذي صار بمقدورهم أحداث التغيرات الاجتماعية الضرورية في بنية الأنا الاجتماعية البالية، ونقلها إلى مستوى جديد من الأنا العليا التي تؤكد على الطابع الفريد للكائن الإنساني، بوصفه كائنًا يتحدد بالحرية، وبالتالي بطلان كل المعتقدات القديمة التي تحرض على لستعباده ونزع الجانب الروحي أو النفسي المستقل من داخله.
اقرأ/ي أيضًا: مسلسل التغريبة الفلسطينية.. عن التشظّي المكاني وأشياء أخرى
يمكن القول إن المشاهد للمسلسل قد خسر الفرصة للتعرف على أهم المحطات الدرامية في حياة فرويد، إلا أنه قد ربح في الوقت نفسه فرويد المحلل النفسي، كما تجلى عبر كاميرا كرين، التي سمحت لنا بمعاينة لغة بصرية شديدة الروعة والغنى والتركيب، متنقلة بنا ما بين طبقات اللاوعي الدفينة، ومشاعر الشخصيات العميقة، وصولًا إلى حركة الشخصيات وتكويناتها في الفضاء العام للعمل.
اقرأ/ي أيضًا: