"لا أستطيع هجركِ يا حبيبتي، لذا سأتوقف عنكِ لبعض الوقت"، يصدح صوت روبرت بلانت بكلمات بلوز ويلي ديكسون العتيقة، منبعثًا من موبايل كاميل بريكر (آيمي آدامز) ذي الشاشة المكسورة الموصول بكاسيت سيارتها، في طريقها إلى بلدتها الأولى، ويند غاب بولاية ميسوري. هذه الأغنية هي واحدة من أربع أغنيات للفرقة البريطانية الشهيرة ليد زيبلين وقع عليها اختيار المخرج جان مارك فاليه ومستشارته الموسيقية سوزان جاكوبس (حصلت لأول مرة على جائزة "إيمي" عن عملها هنا) لتضمينها في أحداث سلسلتهما التلفزيونية القصيرة، "أدوات حادة"، التي تستفيد بما يعبرها من اختيارات موسيقية كأفضل ما تكون الاستفادة.
كاميل بريكر، كما يعرّفنا بها مسلسل "أدوات حادة"، امرأة صعبة مُعذَّبة ومتعَبة وبدون رغبات
يبدو أن حتى فرقة ليد زيبلين، وهي صاحبة الحقوق الموسيقية للأغنيات الأربع، أدركت تألق السلسلة، من جماليات فنية مقنعة وصلابة أداء جميع الممثلين وأهمية الموضوع. فـ"أشياء حادة" هي سيكودراما مؤرقة وجاذبة ومأساوية عن امرأة اضطربتها الحياة وأوصلتها لإيذاء نفسها كردّ فعل على بشاعة العالم، وفي الوقت نفسه هي دراما تشويقية كما يليق بفيلم جريمة وغموض.
اقرأ/ي أيضًا: مسلسل Westworld: في المشترك بين السينما والفلسفة
كاميل بريكر، كما يعرّفنا المسلسل بها على فترات، امرأة صعبة مُعذَّبة ومتعَبة وبدون رغبات، وهي أيضًا مراسلة صحفية مضطربة عاطفيًا وتدمن شرب الكحوليات وقضت بضع سنوات في مستشفى للتأهيل النفسي من إدمانها أذية نفسها بجرح مختلف أجزاء جسمها بأدوات حادة لحفر تذكارات لفظية. غادرت كاميل بيت أهلها منذ سنوات، وأصبحت صحفية في شيكاغو، لكن سيتعيّن عليها العودة مرة أخرى إلى بلدتها الصغيرة لإنجاز تحقيق صحفي حول اختفاء/مقتل فتاتين من البلدة، بتكليف من محررها فرانك (ميغيل ساندوفال)، الذي يعاملها بأبوة ويدعمها باستمرار. غموض يبدو وكأنه يستحضر الاقتراحات الروحية للطبيعة البرية التي أظهرها بيتر وير في "بيكنيك آت هانغينغ روك". لكن لن تجد كاميل أي عزاء، سواء في أم عاطفية أو في أخت غير شقيقة بالكاد تعرفها. على العكس، سيتعين عليها التعامل مع ذكريات حادة، مثلما يشير العنوان، وفي النهاية، في دوامة شريرة، مليئة بتقلبات الحبكة، ستكشف كل شخصية جوانبها الداكنة.
لأن الحقيقة لا تتوقف عند هاتين الفتاتين المقتولتين، فسريعًا ما يدرك المتفرج، في ضوء مونتاج مبهر وصور متتابعة بشكل حدسي لذكريات كاميل الصغيرة ومواجهاتها، مع أمها أدورا (باتريشيا كلاركسون) وأختها غير الشقيقة الأصغر سنًا إيما (إليزا سكانلين)، أنه كان لدى كاميل أخت صغيرة أخرى منذ 20 عامًا، ماريان، ماتت في ظروف غامضة لا يكشف عنها المسلسل سوى في محطة متأخرة. ومنذ ذلك الحين، داومت كاميل على خربشة المشاعر والكلمات على جسمها لتحتفظ بها إلى الأبد. "تختفي" هنا، أو "تصلح" هناك ، أو حتى "كرز"، يحرص صناع السلسلة على ربط عناوين حلقاتها بالكلمات المحفورة على جلد كاميل، والتي تظهر على الشاشة في ومضات موجزة لفترة وجيزة فقط، لأن كاميلي ترتدي، في منتصف الحرارة الرطبة لميسوري، سراويل طويلة داكنة اللون وبلوزات بأكمام كاملة. ومن أجل تجنب اكتشاف حقيقة هذا العدوان الذاتي، تُبقي كاميل على مسافة تباعد بينها وبين الرجال، مكتفية بالاستمناء على سريرها بديلا للجنس.
لكن مثلما يستيقظ الماضي في عقل كاميل، تنهض رغبتها الجنسية أيضًا، وهنا يظهر المحقق ريتشارد (كريس ميسينا). ريتشارد غريب عن ويند غاب، قادم من كانساس سيتي ولا يلقى سوى عجرفة أهالي البلدات الصغيرة التي تميّزهم أمام ما يعتقدونه دخيلا يتوهّم تفوقًا نوعيًا عليهم. ما سيجمع بين ريتشارد وكاميل ليس سوى حانة البلدة، حيث ملجأ الوحيدين والباحثين عن حل الأحجيات الأكثر صعوبة وغموضًا. هناك يجلسون في غير ميعاد: المحقق، والصحفية، وشقيق المقتولة (المشتبه به)، ووالد القتيلة الأخرى (المشتبه به أيضًا)، وآخرون يشاركون، كل على قدر استطاعته، في تطوير السرد وإضفاء طبقات المعنى على الصورة. مثلا، ليس من قبيل االمصادفة، أن يلعب صاحب الحانة أغنية لجوني كاش، تحديدًا في المرة الأولى التي تظهر فيها على الشاشة.
عادة ما يكون من السهل نسف فكرة أي عمل تشويقي بكشف نهايته، وفي حالة "أدوات حادة" يحتاج صانعو السلسلة التلفزيونية ما هو أكثر من التشويق لجذب متفرج يعلم -غالبًا- مسبقًا حل اللغز. فالسلسلة مأخوذة عن رواية للكاتبة الشهيرة جيليان فلين تحمل نفس الاسم، أي أن هناك بضعة ملايين من القراء قد عرفوا القصة ونشروها وأخبروا ملخصها لبضعة ملايين آخرين. لكن نصّ فلين وحده، وهي كاتبة "بيست سيللر" في النهاية، ليس سرّ نجاح وثقل السلسلة. فبالنظر إلى باقي الأسماء المشاركة في العمل، نجد الثنائي مارتي نوكسون في كتابة السيناريو والحوار وجان مارك فاليه وراء الكاميرا، اللذان اشتركا من قبل في إنجاز عمل تلفزيوني رائع آخر هو "بيغ ليتل لايز" قدّم خلطة مبهرة من الدراما التشويقية والاجتماعية مع حسّ نسوي لافت. ومثلهما، آيمي آدامز التي تتقدّم كتيبة لا تقل روعة وتمكنًا من الممثلين والممثلات، حوّلوا الكلمات إلى شخصيات من لحم ودمّ (نخصّ بالذكر المخضرمة باتريشيا كلاركسون، في دور الأم المتسلّطة المهووسة بالحماية، والموهبة الرائعة الصغيرة إليزا سكانلين، في دور إيما المراهقة اللعوبة والغامضة والتائهة، وإليزابيث بيركنز).
رعب مسلسل "أدوات حادة" يقبع في ما وراء الصدمة. والوحش هنا ليس شبحًا تتعقبه الذكريات المحطمة، بل مجتمعًا كاملًا
البناء الدرامي لهذا الجو المحيط بكاميل كئيب مظلم قوطيّ السمات، وعودتها إلى أرض الأسرار الكثيرة والأكاذيب الكبيرة والحشرات الميتة والفتيات المقتولة والمراهقات الباحثات عن تحقيق أنوثتهن في زمن الفرجة والشعبية، يجد دليله في وجهها المنتفخ وإدمانها الكحول وسماع الموسيقى الحزينة، كانعكاس طبيعي لكذب البيئة المحيطة وفقاعات الحمائية الأمومية وصدمات التجارب المرعبة من طفولتها وشبابها. إنها بطلة محطمة باستطاعتها تفتيت قلبك، مثلها في ذلك مثل تلك المرأة الصغيرة جين شابمان (شايلين وودلي) في "بيغ ليتل لايز" التي تجاهد من أجل الخلاص ودفن الماضي المؤلم، بعد كشف أسراره المؤرقة.
اقرأ/ي أيضًا: ما الذي يحاول صانعو مسلسل Rick And Morty قوله؟
لكن رعب "أدوات حادة" يقبع في ما وراء الصدمة. والوحش هنا ليس شبحًا تتعقبه الذكريات المحطمة، بل مجتمعًا كاملًا. تميل أفلام الرعب إلى تجسيد القلق المجرد في شخصيات مخيفة. وعلى الرغم من أن ذلك النهج قد يكون قهريًا أو مدفوعًا لصالح إعطاء الشخصيات قوة أكبر منها، إلا أنه يُبقى إمكانية معالجتها بشكل ملموس. الوحشية ضد المرأة ليس أمرًا يسهل التخلص منه في "أدوات حادة". الرعب هنا هو الحياة اليومية ذاتها، وهو بنية اجتماعية اسمها "ثقافة الاغتصاب" يمكن العثور عليها في الحياة الحقيقية. لا يمكنك التغلب على الرعب ببساطة عن طريق قطع رأسك. كل فرد هو جزء منه وسيتعيّن عليه العيش معه طالما ظلّ فيه نَفَس. هذا عجز مخيف أكثر من أي وحش يمكن أن يكون، وهنا بالتحديد قوة هذه السلسلة التلفزيونية الرائعة.
اقرأ/ي أيضًا: