كُتب على نصب تذكاري للملك "زاكور" عبارات نصها: "إهداء إلى إيلوير من قبل ملك حماة أولو آش زاكور الذي استطاع بفضل حماية بالشامين أن يهزم التحالف الذي أقامه ضده كل من ملك آرام، بارحدد، ابن هازاهول، من دمشق، الملك بارغوزى، آموك، جور كوم، صموئيل، ميليد، الذين حاصروا مدينة هازرك"*
طفلتي، ذات التسعة شهور، تنحو إلى جانبي، أشعر بها تبحث عن صدري، وأشعر أيضًا بألم جسيم يتصاعد فيّ، وفي قدميّ خاصة. تشرع سمرائي الصغيرة بالغمغمة، وأرغب إعطاءها الحليب من صدري المتحجر، غير أني أعجز عن التحرك قيد أنملة، أفتح عينيّ المعفرتين بغبار الإسمنت والحياة، وإذ بها ترمقني النظرة ذاتها، نظرة الهراء حديثة الولادة، والتي فطرت قلبي هيامًا ما إن وضعتها الداية أم عبد الله إلى جانبي. لم تعلُ الزغاريد، في ذاك اليوم الكانوني القارص، عاليًا كما فعلوا عندما ولدت سلفتي ابنها محمود، لكني لم آبه حقيقة، بل انهمرت بقبلات رقيقة على جبينها وعينيها ثم نزولًا حتى خديها وعلى ذقنها الصغيرة المقوصة، في الأثناء كانت والدتي تقول: من الأفضل لو أنجبت صبيًا.
جلبة في الجوار، وأصوات حفر وقعقعة صخور وتهاويها إلى أسفل، جسدي مثبت كمسمار على جدار، شعري الطويل أحس به حول رقبتي يمر كنهر أسود، ويلف خصري ليصعد نحو كفي الممددة فوق ساقي وينتهي هناك. عيني اليسرى تتجه نحو الأعلى، نحو مساحة رمادية تحتل مدى نظري، وكأن بي ميول ثلاثين درجة إلى اليسار.
بدأ الألم يتلاشى تدريجيًا، أحاول النهوض فأخفق، يتسلقني الخدر وينسدل جفناي بالرغم عني، استيقظت متى لا أعرف، كانت رضيعتي ذهب شاحبة جدًا وواجبي الأمومي الغريزي يدفعني لتمالك نفسي والثبات، أما فمي الممتلئ بالتراب والبحص يمنعني عن النداء أو الصراخ لطلب النجدة. مضى زمن لم أقدره يمر بين إغماء وصحوة. شعرت بغتة بأصابع قدمي ويدي، حاولت سحب جسدي فاستطعت ونهضت، وجدتني بثياب ممزقة مغبرة، ورأسي بلا غطاء، وكلما انتشلت طفلتي انسابت من بيني أصابعي كالضوء، نبضها ضعيف وأنفاسها تكاد لا تسمع.
يتكشف أمامي ممر طويل أشبه بسرداب إلا أنه شديد الإضاءة، قوة ما لا أعرف توصيفها تدفعني لعبوره مجبرة، أسعى فيه قلقة ويقظة حوالي خمسين مترًا، في نهاية الممر أعثر على باب أطرقه لكن أحدًا لا يرد، أسمع أصواتًا مألوفة، أفتحه وإذا بأخي يستعجل خطاه ومن ورائه والدتي تطلب منه أن يخفض صوته كي لا يصل آذان الجيران، كان يشدني من شعري بيد، وبيده الأخرى يحمل سكينًا، يطرحني أرضًا ثم يضع النصل على رقبتي ويتوعد بذبحي ذات يوم كدجاجة، ثم يخبر أمي: هذه الحيوانة لن تجلب لنا إلا العار، في ذاك اليوم وعند الظهيرة، كنت قد سرقت سيجارة من علبته، ولم يجل ببالي أنه يحصيها، فاجأني من ورائي أنفث الدخان بعمق وشهية، فكان ما كان، ولا أعتقد أن هذه الحادثة هي ذريعة إخراجي من المدرسة وتزويجي لابن عمي.
أتجاوزهم وأتخطى باب الدار حيث السهول صفراء تتلوى من القيظ، أتوجه إلى تل آفس، غرب قريتنا الضامرة كبطن قط جائع، والذي أخرجوا من أحشائه رقمًا وحليًا وثورًا موشى بالذهب، سمعت عمي يخبر والدي أن منظمة غربية تعتبره منطقة غنية وأثرية، فظننت أننا سنصبح أثرياء. تتحرك مراتع الطفولة تحت قدمي كسطح ماء، أشاهد طفلة شعثاء، تكسو الحمرة وجنتيها السمراوين وتلعب بين الصخور، أقترب منها، وأتوق لتأمل ضباب الطفلة التي كنتها، أمد أصابعي لألمس شعرها المسدل فوق كتفيها، تبتعد وتركض نحو غايتها إلى وزغ صغير**، تقبض عليه بإبهامها وسبابتها من بطنه، تجعله يعدو فوق ساقيها وساعديها، ثم تحمله إلى أمي في الدار، تزعق الأخيرة: اقتلي من نفخ النار في وجه أبي الأنبياء.
عند أسفل التل يجلس كعادته أبله القرية، اللقب الذي أطلقه الصبية، لاختلافه عنهم، بشير الهادئ الرقيق والهزيل البنية، ذو العينين المعلقتين بالسماء، وعندما بلغ الثالثة عشرة عرفت القرية بأكملها كتابته للشعر فاستحق لقبه بامتياز، كانت يده مضمومة، وفي عينيه يرعد إله حدد، نهض غاضبًا ورمى ورقة في الهواء، أرفعها عن الأرض لأجد نفس القصيدة التي طيّرها لى عبر نافذة غرفتي، في أصيل حار يصم فيه صوت جناذب الليل الآذان، ليلتها قرأتها وكورتها وابتلعتها، مخافة أن يعثر أحد أفراد عائلتي عليها، فلم يكن لي أي نية في ارتكاب هفوة كهذه باعتبار الحب خطيئة، ضمن قائمة طويلة من الخطايا المعلقة فوق صدورنا كجاثوم خانق. رفعت بصري وتراءت لي الدور المتقاربة عبر اهتياج الهواء الحار كسراب متحرك، عثرت على دارنا، وكأن به حشد، وكأنهم بي يزفونني إلى زوجي فراس.
أسرع من وراء بشير للحاق به، أود إخباره بشيء مستعجل، بكلمتين تنشطران في صدري إلى أرجل أخطبوط وتقوض عظامي، أناديه لا يلتفت، يمضي هوجًا والتياعًا، يداه تتحركان وكأنهما منفصلتان عن باقي جسده، والقرية الترابية الشاحبة ترتج، تنهار وتنطمر، ثم تصعد منها قبور وتعلو دون شواهد، دون أسماء، ودون زهور اصطناعية.
تتزاحم الصور، وتتزاحم الأمكنة والأشخاص والروائح والألوان، المنازل التي انتقلت إليها والغرف التي عشت بين جدرانها، أنبش ذاكرتي كطائر يشتهي دودة، أبحث عن أشياء رغبت في فعلها في إنجازها، يحضر أمامي وجه ذهب على سريرها في منزل زوجي في المدينة، تناغي وتكتشف أصابع قدميها بفمها، يعمّ هدوء مباغت ليقطعه هدير الصواريخ، ومن وراء ستارة النافذة البيضاء أراقب لسان الدخان الأسود المتصاعد يبتلع الأبنية، وعلى الحدود الجنوبية لاحت أطلال وحدها الأشباح تجرؤ على المرور بها. لا تزال صواريخ النظام الحاكم تهطل بغزارة، والجموع تجزع، وعيونها معلقة بالسماء، لا لوحي شعري بل موت يفرون منه. تقترب مروحية من فوق حارتنا، أذهب إلى طفلتي، يعم ضجيج ويسود صمت، أياد تنتزع الحجارة ويحملون ذهب، سراديب جديدة تنفتح أمامي وعشرات الأبواب الموصدة في نهايات ممراتها تتراءى لي، وأرى شابًا يمسك بيدي من تحت الأنقاض، يفحص نبضي ويعلن: والدة الطفلة ميتة.
* عثر على هذا النصب التذكاري في موقع تل آفس، وهو موجود اليوم في متحف اللوفر في فرنسا.
** الوزغ يعرف في سوريا بأبي بريص.
اقرأ/ي أيضًا: