كان اليوم وقتها، الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2016، الذكرى الخامسة لثورة يناير، الأمن مستتب، وعدد رجال الأمن، ومخبروهم ومرشدوهم المنتشرين في الشوارع، ربما يفوق أعداد المواطنين العاديين، خصوصًا في محيط منطقة وسط القاهرة. بحلول الثامنة مساءً، بعد أن انقضى معظم ساعات اليوم وبات واضحًا مروره مرّ الكرام، يغادر باحث الدكتوراه الإيطالي بجامعة كامبريدج، المقيم في القاهرة، جوليو ريجيني، 28 عامًا، منزله لملاقاة أصدقائه بمحيط ميدان باب اللوق لحضور حفل عيد ميلاد، مستقلًا المترو من محطة "البحوث". ولكنه لم يصل إليهم أبدًا.
صدرت أولى المعلومات الرسمية عن "جوليو ريجيني" عندما بدأت النيابة العامة تحقيقاتها لتكشف عن وجود آثار تعذيب، ما يشير إلى تعرضه للموت البطيء
درس ريجيني الاقتصاد بجامعة كامبريدج البريطانية، وانتقل إلى القاهرة منذ سبتمبر الماضي ليتابع دراساته العليا المتعلقة بالتنمية، حيث يشغل منصب باحث زائر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. جدير بالذكر أن رسالة الدكتوراه خاصته قد تناولت "دور النقابات العمالية المستقلة بعد ثورة 25 يناير"، ما يعطي لمحة عن ميوله اليسارية.
بعد مرور حوالي 10 أيام على اختفائه، تحديدًا في مساء الأربعاء الثالث من فبراير، ذكرت مصادر غير رسمية إن جثة ريجيني قد عُثر عليها قرب مصرف مياه بمدينة السادس من أكتوبر، المتاخمة للعاصمة المصرية، وبها آثار "حروق وتعذيب واضحة"، وهو ما أكدته المصادر الحكومية المصرية صباح اليوم التالي. ربما ينفي هذان الشاهدان تصور تعرض ريجيني لمحاولة سرقة انتهت بقتله، فمن يحاول سرقته في منطقة، ويوم، كهذين، بالتأكيد لن يعرض نفسه للمزيد من الخطر بمحاولة نقل الجثة إلى مدينة مجاورة. علاوة على أن من قد يحاول سرقته بالتأكيد لن يضيع وقتًا في تعذيبه وحرقه.
رفضت وزارة الخارجية الإيطالية، في البداية، الإدلاء بالمزيد من التفاصيل، على نحو غامض، بشأن الواقعة. بل وأعرب وزير الخارجية الإيطالي، باولو جنتيلوني، عن أسفه لموت ريجيني "المرجح"، فكيف يعرب وزير عن أسفه حيال موت لم يتأكد بعد (في حينها)؟ ولماذا لم يقدم المزيد من التفاصيل؟ جميعها أسئلة تثير الكثير من الشكوك حول الموت المؤسف لريجيني.
يبدو الجانب الأغرب متمثلًا في عدم صدور أي معلومات مجدية من قبل وزارة الداخلية المصرية، وعدم تأكيدها أو نفيها بشكل رسمي لواقعة العثور على الجثة. بل صدرت أولى المعلومات الرسمية عندما بدأت النيابة العامة المصرية تحقيقاتها لتكشف عن وجود آثار تعذيب في جميع أنحاء الجسد والوجه، ما يشير إلى تعرضه لـ"الموت البطيء".
تعيد تلك الحادثة إلى الأذهان حادثة أخرى مروعة جرت في شهر أغسطس الماضي، عندما اختطف تنظيم متطرف، ولاية سيناء، المهندس الكرواتي، توماسلاف سلوبك، من منطقة السادس من أكتوبر، ذات المنطقة التي عُثر بها على جثة ريجيني. ليبث التنظيم، الذي أعلن سابقًا بيعته لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لاحقًا مقطع فيديو تضمن لقطات لسلوبك، الذي طالب في الفيديو بإطلاق سراح من أطلق عليهن "النساء المعتقلات في السجون" في غضون 48 ساعة، وإلا سيقوم التنظيم بقتله، وقد نفذ التنظيم وعيده بالفعل.
إلا أن الأمر يبدو مختلفًا مع ريجيني. فمنذ نشاطها في مصر، لا تنتهج التنظيمات المتطرفة تعذيب ضحاياها قبل قتلهم أو إخفاء مسؤوليتها عن ذلك، بل تسارع إلى التفاخر بذلك ومساومة الدولة على إطلاق سراح الرهائن. وفي ضوء تعرض ريجيني للتعذيب، وعدم إعلان أي تنظيمٍ متطرف مسؤوليته عما حدث له، يبدو ذلك الاحتمال مستبعدًا.
ولكن على الجانب الآخر، تذكر تقارير إعلامية إيطالية بعض المعلومات المثيرة بشأن القضية، لا بد أن نستهلها ببعض ما قيل عن اهتمامات ريجيني، خصوصًا خلال إقامته في مصر.
تتمثل الشهادة الأكثر أهمية في تصريحات صديقه، چيوسيپى أكونشيا، الكاتب والصحفي، لإذاعة "راديوبوبولاري" الإيطالية حول أن ريجيني قد "أعرب له عن خوفه على أمنه الشخصي" في بعض رسائل البريد الإلكتروني بينهما مؤخرًا. ويعود السبب في ذلك، وفق أكونشيا، إلى "مشاركته في مساعدة النقابات والحركات العمالية المستقلة" في مصر، وبالتالي، "كانت له صلات بالمعارضة المصرية".
الشهادة الأكثر أهمية هي تصريحات صديق ريجني، چيوسيپى أكونشيا، أن ريجيني قد "أعرب له عن خوفه على أمنه الشخصي" في بعض رسائل البريد الإلكتروني
علاوة على ذلك، اعتاد ريجيني نشر مقالاتٍ له بالصحيفة اليومية الإيطالية "المانيفستو"، ذات التوجهات اليسارية والشيوعية، بشأن مصر، ولكن تحت اسم مستعار "خوفًا على سلامته الشخصية"، حسبما أوضح أكونشيا. وفي ذات السياق، ذكر سيمون بيراني، محرر الشؤون الخارجية بالصحيفة، أن الصحيفة ستنشر يوم الجمعة، الخامس من فبراير، آخر مقال أرسله جوليو قبل اختفائه بأيام قليلة، مع توقيعه الحقيقي بالتأكيد.
قال توماسو دي فرانسيسكو، الكاتب بموقع "المانيفستو"، إنه في مطلع شهر يناير، بعد أن أرسل ريجيني مقاله الأخير بشأن "استئناف مبادرة النقابات العمالية المصرية"، شدد عدة مراتٍ على ضرورة نشر مقاله تحت اسم مستعار.
بتاريخ الخامس من فبراير، نشر موقع "المانفستو" مقال ريجيني الأخير، الذي حوى بالفعل انتقادات لاذعة للنظام المصري والرئيس السيسي بالتحديد. كما ذكر ريجيني حضوره لاجتماع خاص بـ"دارالخدمات النقابية والعمالية"، وهو كيان نقابي عمالي مستقل يضم أعضاءً من جميع أنحاء مصر، وتناول الاجتماع مناقشات حول توجه الدولة لمحاربة النقابات المستقلة وتهميش العمال.
اشتمل جدول أعمال الاجتماع أيضًا على وضع خطط للتحرك على المدى القصير والمتوسط، وقد كان الحضور كبيرًا لدرجة أن البيان الختامي قد اختتم بتوقيع 50 جهة، تمثل تلك الجهات قطاعات من مختلف أنحاء البلاد. كما تجدر الإشارة إلى أن ذلك الكيان لم يجتمع منذ عام 2013، حسبما أوضح ريجيني في مقاله.
يؤكد على ذلك ما أوضحه أكونشيا، في مقال له صدر بتاريخ الخامس من فبراير، حول أن ريجيني قد شارك في اجتماعات مع عمالٍ تعرضوا للاعتقال خلال الأشهر الأخيرة، وأخبره ريجيني بشأن شعوره بالخوف من توقيع مقالاته باسمه الحقيقي، إلا أنه لم يخبر صديقه بتعرضه لتهديداتٍ أو صورٍ محددة من الترهيب، بل بسبب "المناخ العام من القمع المسيطر في البلاد"، على حد تعبيره.
كما ذكر أكونشيا، في مقابلته مع الإذاعة، شهادة لـ"صحافية مصرية" على واقعة إلقاء القبض على شخص أجنبي "داخل محطة مترو الجيزة". جدير بالذكر أن المحطات الثلاث، "البحوث"، حيث بدأ ريجيني رحلته بلا عودة، "محمد نجيب"، حيث كان يفترض أن يصل ليتوجه إلى أصدقائه، و"الجيزة"، حيث وقع ما ذكرته الشاهدة، تقع ضمن محطات الخط الثاني من مترو العاصمة، على مسافات غير متباعدة. ويرجح أكونشيا، إن كان ريجيني هو المقصود بالشهادة، أنه "قد توجه إلى ميدان الجيزة أولًا ليرى إن كانت هناك أية تظاهرات"، حيث اعتاد بعض المنتسبين للتيار الإسلامي تنظيم تظاهرات هناك، قبل أن تشملهم الحملات الأمنية خلال العامين الأخيرين.
وفي ذات السياق، أوردت الإذاعة الإيطالية على موقعها أن صديقًا لجوليو - رفض ذكر اسمه - قد صرح لصحيفة مصرية بأن البحث الذي أجراه جوليو تضمن إجراء مقابلات مع نشطاء عماليين مصريين، وأضأف صديقه أنه قد حذره من مخاطر ما يفعله، ولكن ريجيني وعده بألا يجري المزيد من المقابلات أو العمل الميداني حتى يوم 25 يناير الماضي، يوم اختفائه.
بالتأكيد تحمل الشواهد والوقائع آنفة الذكر في باطنها بعض الدلالات حول الدوافع المحتملة لقتل ريجيني، ولكن في غياب دليل قاطع نستدل به على هوية من عذبوه حتى الموت ثم ألقوا جثته نصف العارية في منطقة مهجورة، يستحيل توجيه أصابع الاتهام صوب إحدى الجهات.
اقرأ/ي أيضًا: