رغم أن الأسئلة التي تواجهها الإنسانية اليوم، بفعل وباء كورونا، تبدو فريدة واستثنائية، إلا أنها قد تتشابه إلى درجة كبيرة، مع أسئلة وتحديات سبق وأن تعرضنا لها مع أوبئة وكوارث أخرى. يقارب المقال أدناه، المترجم عن صحيفة الغارديان البريطانية، الإنفلونزا الإسبانية بتلك الطريقة، ويسلط الضوء على تلك التشابهات.
أحيانًا يصل التشابه بين هذه الجائحة والجائحات التي سبقتها حد الغرابة. خذ على سبيل المثال الهيدروكسي كلوروكوين، علاج الملاريا، الذي تنظر الوكالات الطبية حول العالم في التصريح باستخدامه لعلاج مرضى كوفيد 19. خارج المستشفيات، أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، عن حماسهم تجاه الدواء، وبدأ الناس في مخالفة قواعد التباعد الاجتماعي للحصول عليه، وقد سجلت حالات تسمم بسبب الاستخدام الذاتي الخاطئ للدواء.
رغم أن الأسئلة التي تواجهها الإنسانية اليوم، بفعل وباء كورونا، تبدو فريدة واستثنائية، إلا أنها قد تتشابه إلى درجة كبيرة، مع أسئلة وتحديات سبق وأن تعرضنا لها مع أوبئة وكوارث أخرى
الضجة المحيطة بالدواء نتجت عن تجربة صغيرة أجريت في مستشفى في مرسيليا. قد تبدو التجربة واعدة، لكنها لم تقدم حتى الآن دليلًا قياسيًا على أن الدواء ناجح في معالجة كوفيد 19، ما بالك بالمعلومات عن المرحلة التي يعمل فيها والجرعات اللازمة منه. تجرى اليوم تجارب أكبر على هذا الدواء وغيره من العلاجات، لكن حتى نتائجها الأولية لن تظهر الآن.
اقرأ/ي أيضًا: ما أهمية الإنسانيات في زمن كوفيد-19؟
في عام 1918، في خضم أسوأ جائحة إنفلونزا في التاريخ، وصف الأطباء في كل أنحاء العالم للمرضى دواء الكينين، وهو أيضًا من أدوية الملاريا، على الرغم من عدم وجود دليل على نجاعته ضد الإنفلونزا. في ذلك الوقت لم يكن هناك فهم كبير لكيفية تفاعل الدواء مع الجسم، وقد وصفوا جرعات كبيرة منه في بعض الأحيان تسببت في أعراض جانبية منها الدوار وطنين الأذن والقيء. في كتاب العيش مع إنزا (Living with Enza) الذي يروي التجربية البريطانية مع الإنفلونزا الإسبانية، يقول مارك هونيجسباوم إن سكان لندن رفضوا أن يتم صرفهم بنصائح مضمضة الماء بالملح وحاصروا الأطباء والصيادلة مطالبين بدواء الكينين.
لا شيء تغير. لكن الحقيقة الأعمق التي تكشفها هذه الأزمات، هي أن السياسيين ليسوا وحدهم من يتعين عليه اتخاذ قرارات أخلاقية، بل تفرض هذه القرارات على الأطباء والعلماء أيضًا. في عالم مثالي، سيقدم العلماء الحقائق، وسيزنها السياسيون أمام حقائق أخرى وسيتخذون القرارات. سيتحمل السياسيون العبء الأخلاقي. لكننا لا نعيش في عالم مثالي، وتقسيم الأدوار مجرد وهم.
وكما أشار الفيلسوف ديفيد كيني من معهد سانتا في هذا الأسبوع، نادرًا ما تجتمع الحقائق كلها أمام العلماء في أوقات الأزمات. كل ما بوسعهم تقديمه هو طيف من النتائج الممكنة والاحتمالات المرتبطة بها، وأحيانًا يكون هذا الطيف واسعًا لدرجة ينعدم معها نفعها بالنسبة لصناع القرار، لذا يتوجب على العالم أن يخرج من منطقة الراحة ويضيق النطاق بناء على معايير أخرى غير الدليل العلمي. بعبارة أخرى يتخذ خيارًا أخلاقيًا خاصًا به. لهذا نشهد اليوم، كما حدث في 1918، العلماء وهم يهاجمون بعضهم البعض في وسائل الإعلام. نشر أحد العلماء على تويتر مؤخرًا تغريدة وصف فيها دراسة مرسيليا بالجنون.
في تلك الدراسة، التي لا تزال مستمرة، يعالج مرضى كوفيد 19 بمزيج من الهيدروكسي كلوروكوين ومضاد حيوي هو أزيثروميسين. الهيدروكسي كلوروكوين هو شكل أقل سمية من الكلوروكوين، أحد أكثر الأدوية الموصوفة في العالم. أما الأزيثروميسين فهو مضاد حيوي يوصف لعلاج الالتهابات الرئوية البكتيرية، وهي إحدى المضاعفات المحتملة لمرض كوفيد 19.
هذا المزيج بالجرعات المطبقة في مرسيليا، آمنة بالنسبة لمجموعات أخرى من المرضى. وليس معروفًا حتى الآن إن كانت آمنة بالنسبة لمرضى كوفيد 19. هناك بعض الإشارات على أن المزيد قد تكون له بعض الآثار الضارة بالقلب، لذا يجري الأطباء في مرسيليا تخطيطًا للقلب للمرضى قبل تقديم العلاج لهم.
حتى اليوم نشروا نتائج العلاج على 80 مريضًا. وقد أبلغوا عن انخفاض الحمل الوبائي، أي أن المدة التي يكون فيها المرضى مصدرًا للعدوى أصبحت أقصر، وأبلغوا كذلك عن تحسن في الأعراض، مقارنة بمرضى كوفيد 19 في أماكن أخرى. نشرت ملاحظاتهم على موقع المستشفى باللغة الإنجليزية قبل مراجعتها من قبل نظراء. الأعداد المختبرة قليلة للغاية، بمعايير التجارب السريرية العادية، كما أشار البعض إلى وجود تناقضات في النتائج. والأسوأ من ذلك كله بحسب النقاد، عدم وجود مجموعة ضابطة، فليس هناك مجموعة من المرضى مطابقة في العمر والنوع لا تخضع للعلاج وتخضع للمراقبة في نفس الظروف. يقول الدكتور ديدييه راولت المشرف على الدراسة، إن من غير الأخلاقي فعل ذلك في وقت يصارع فيه المرضى الموت، ويخاطر طاقمه بحياتهم لإنقاذ هؤلاء المرضى، وليست هناك أي خيارات دوائية أخرى أكثر فعالية.
يدير الدكتور راولت وحدة البحث في الأمراض الوبائية والاستوائية وهو أحد أكثر العلماء مكانة في العالم في هذا المجال. يعرف أنه بادعائه لفاعلية علاجه فقد اتخذ قرارًا أخلاقيًا وليس قرارًا قائمًا على الدليل العلمي. وقد ذكر زملاؤه الأطباء الأسبوع الماضي في مقال في لو موند بأن واجبهم الأول هو تجاه مرضاهم وليس المنهج العلمي. ويعتقد أن الوقت سيثبت صحة اختياره.
اقرأ/ي أيضًا: جوديث بتلر.. عن التغيير في زمن كورونا
ربما. لكن حين اتخذ السير آرثر نيوزهولم كبير الأطباء في حكومة المملكة المتحدة قرارًا أخلاقيا في آب/أغسطس 1918، تبين خطؤه لاحقًا. كانت الموجة الأولى الخفيفة من الوباء قد مرت، وكانت الحرب العالمية الأولى قد شارفت على نهايتها. وقرر تأجيل خطط مواجهة الموجة الثانية من الوباء بحجة أن الجهود الحربية لها الأولوية. في غضون أسابيع قليلة، عادت الإنفلونزا أشد شراسة بحسب رواية هونيجسباوم.
في عام 1918، في خضم أسوأ جائحة إنفلونزا في التاريخ، وصف الأطباء في كل أنحاء العالم للمرضى دواء الكينين، وهو أيضًا من أدوية الملاريا، على الرغم من عدم وجود دليل على نجاعته ضد الإنفلونزا
أخبرني راولت قائلًا: "السياسيون يحكم عليهم التاريخ، أما أنا فيحكم علي مرضاي". ربما هذا خطؤه وحده، لكننا نخطئ إن اعتقدنا أن الحكومات والعلماء الذين يقدمون المشورة لهم لا يتخذون قرارات أخلاقية طوال فترة الأزمة. قرارات حصر الاختبار على المستشفيات وقرارات نصح كبار السن بالبقاء في المنازل قبل إعلان الحظر العام، كانت قرارات أخلاقية جزئيًا. لم يكن بوسعها أن تكون شيئًا آخر. لو امتلك العلماء كل الأجوبة لما وصلنا إلى هذا الحال في المقام الأول.
اقرأ/ي أيضًا:
6 تدابير وقائية أساسية ضد فيروس كورونا الجديد
أهم 8 مصطلحات تلزمك معرفتها عن فيروس كورونا