الناظر إلى لوحات الفنانة اللبنانية سارة شعَّار لا يستطيع، فور اصطدامه بها، أن يتجاهل فكرة أنها مؤلَّفة من نقيضين هما: البناء والهدم. أو، بجملةٍ أدق: التأليف والمحو الذي ستتبعه عملية تأليفٍ ومحوٍ جديدة لا تنتهي.
لا يمكن الخروج من معرض الفنانة اللبنانية سارة شعَّار "يقين متخيَّل"، بانطباعٍ واحدٍ يشمل جميع لوحاته
وعند استسلامه لهذا الانطباع الذي يتشكل عنده بمجرد وقوفه أمام لوحات معرضها الجديد "يقين متخيَّل" (غاليري Art on 56th)، لن يستطيع المتفرج أيضًا، تجاهل فكرة أن الشكل النهائي للوحات شعَّار، ليس سوى نتيجة طبيعية لتكرار عملية التأليف والمحو بشكلٍ متواصلٍ لا يكتمل عنده المشهد المُراد رسمهُ، وإنما محاولات رسمهِ فقط.
اقرأ/ي أيضًا: "معًا".. بيروت ما بعد كارثة المرفأ
يرتبط الانطباع السابق بما نراه في لوحات الفنانة اللبنانية، التي لا تحمل في متنها أي مشاهد أو تفاصيل واضحة. كل ما نراه على سطح لوحات معرضها المستمر حتى العاشر من تموز/ يوليو الجاري، هو مساحاتٌ خشنة ومموهة تتراكم فيها كتل وخربشات وأشكال مختلفة وخطوط متفاوتة الشكل والحجم، لا توحي طريقة توزيعها بأنها وضِعَت معًا، بل بأنها أُضيفت، غالبًا، إلى بعضها البعض في فتراتٍ زمنية متباعدة.
لا يعود سبب توزيع عناصر اللوحة بهذه الطريقة، إلى رغبة سارة شعَّار في أن توزَّع هكذا، وإنما إلى طبيعة بنائها للوحة التي تعيد تأليفها بشكلٍ متواصل، وعبر أدواتٍ وأساليب جديدة في كل مرة. والنتيجة، طبقاتٌ تعلو أخرى وتتهيأ، في الوقت نفسه، للمصير ذاته. بالإضافة إلى كتلٍ لونية داكنة تَطمِسُ أخرى فاقعة سبقتها، أو العكس. وخطوطٌ وخربشات تشوِّه المشهد فلا يعود ممكنًا بالنسبة للمتفرج الامساك بتفاصيله.
وأمام هذا الغموض الناتج عن تكرار عملية التأليف والمحو، لن يكون بوسع المتفرج فعل شيءٍ سوى الاستسلام لهذا التنوع الذي جعل من اللوحة متاهةً بمداخل ومخارج عديدة، تضعه بالضرورة أمام انطباعاتٍ أخرى تحمله على التكفير، مثلًا، باحتمال أن تكون شعَّار غير راغبةٍ في تقديم مشهدٍ أو فكرةٍ مكتملة يعاينها ويمضي، سعيًا منها، ربما، لمشاركته عملية تكوين فكرة اللوحة وإكمال الجزء الناقص منها، مما يفسِّر، وفق هذا الانطباع، شكل اللوحة وغموضها وتعدُّد عناصرها المتداخلة ببعضها البعض.
ويمكن أن يفكر أيضًا، بينما يتجول بين لوحات المعرض، بأن الفنانة اللبنانية ليست معنية برسم المرئيات والأحداث والمشاهد التي تدور حولها، وإنما برسم ما حدث يومًا وانتهى، أو ما يومض في ذاكرتها بخفةٍ شديدة بين وقتٍ وآخر، وبشكلٍ يأتي عنده ناقصًا متبدلًا وعصيًا على الرسم أيضًا، الأمر الذي يدعم فكرة أنها تُعيد تأليف المشهد ذاته في اللوحة ذاتها وفوق محاولاتها السابقة كذلك، وأن إعادة تأليفه يرتبط بعدم ثباته وتبدل تفاصيله أثناء عبوره الخاطف في ذاكرتها.
يلتقي هذان الانطباعان في لفت انتباه المتفرج إلى أن هناك ما هو مخفيٌ في لوحات سارة شعَّار. أو، بالأحرى، في لفت انتباهه إلى ما تم إخفاؤه وطمسه، بقصدٍ أو بدونه، من اللوحة، الأمر الذي يحيل صراحةً إلى فكرة "الغياب". ففي حال كانت الرسامة اللبنانية تتعمد تقديم أفكارٍ ناقصة، أو ترغب في رسم مشاهد منتهية تعبر في ذاكرتها على عجل، يظل العنصر الثابت في الحالتين معًا هو الغياب، إلى جانب قدرة اللوحة على إثارة حيرة المتفرج.
ولعل أكثر ما يشير إلى ذلك الجزء المخفي من اللوحة، هو الطريقة التي وزِّعت عبرها الكتل والخطوط والخربشات التي تبدو وكأنها وضِعَت خصيصًا لإخفاء شيءٍ ما، ولكن بشكلٍ يكون قادرًا على لفت انتباه المتفرج وإثارة اهتمامه وتساؤلاته في الوقت نفسه.
ولكي تكتمل حيرة المتفرج، منحت سارة شعَّار لوحاتها عناوين مستفزة، ترجِّح كفة الانطباع الأول على حساب الثاني أحيانًا، وتدعم الأخير في مواجهة الأول في أحيانٍ أخرى، خصوصًا وأنها عناوين تقول الشيء ونقيضه في آنٍ معًا، مثل "لا شيء وكل شيء"، أو "أنا هنا.. أنا.. أنا...".
لا يستطيع الناظر إلى لوحات سارة شعَّار تجاهل فكرة أنها مؤلَّفة من نقيضين هما: البناء والهدم
العنوان الأخير خُصِّص للوحةٍ مكونةٍ من خطوطٍ وخربشاتٍ عشوائية، دون وجود أي أثرٍ للشخص الذي يمكن أن نعيد إليه فحوى العنوان، الذي لا يمكن أن نتعامل معه إلا بوصفه نداءً من كائنٍ ما توارى خلف عناصر اللوحة المتراكمة فوق بعضها البعض، أي أنه كان حاضرًا فيها قبل أن تمحوه الفنانة اللبنانية حين أعادت تأليفها مجددًا.
اقرأ/ي أيضًا: "القدس بوابة الأرض إلى السماء".. هوية المدينة وذاكرتها
لا يمكن الخروج إذًا من معرض "يقين متخيَّل"، بانطباعٍ واحدٍ يشمل جميع لوحاته. ولكن، بوسعنا القول إن لوحات سارة شعَّار، وكما ذكرنا منذ البداية، مؤلَّفة من نقيضين وربما أكثر. صحيحٌ أن هذا الانطباع ليس شاملًا أو ثابتًا، ولكنه مفتاح ما سيأتي من انطباعاتٍ أخرى غيره.
اقرأ/ي أيضًا: