رحل عن عالمنا اليوم المقاوم والمعارض اليساري المغربي محمد بنسعيد آيت إيدر، عن عمر ناهز الـ 99 عامًا، قضى معظمه في النضال ضد الاستعمار الفرنسي، وبعده النضال من أجل الحرية والعدالة والديمقراطية في المغرب، مؤسسًا الحزب الاشتراكي الموحد، أحد الأحزاب السياسية التي قادت حركة 20 شباط/فبراير خلال الربيع العربي، وكانت حاضرة في معظم الحركات الاجتماعية التي خرجت للشارع المغربي.
ووفق ما أعلن الأمين العام للحزب الاشتراكي الموحد، جمال العسري، توفي آيت إيدر بالمستشفى العسكري في مدينة الرباط في الساعات الأولى من صباح اليوم الثلاثاء. ونعى الأمين العام للحزب الرّاحل، قائلًا: " ببالغ الحزن وبعميق الأسى وشديد الألم، نزل علينا خبر فاجعة رحيل رفيقنا ووالدنا وزعيمنا وقدوتنا، المناضل المجاهد محمد بنسعيد أيت إيدر (...) الشعب المغربي يفقد اليوم واحدًا من أكبر رجالاته وقاداته".
في مراكش، بدأت المسيرة النضالية لمحمد بنسعيد آيت إيدر، حيث انضمّ للحركة الوطنية المقاومة ضد الاستعمار
وفي نعيها للراحل، قالت القيادية في الحزب الاشتراكي والنائبة البرلمانية نبيلة منيب: "وداعًا أيها المناضل الشامخ المتواضع الصادق الذي حمل هم وطنه و شعبه بشغف المحبين، وبعزم الموقنين (...) تحلى [بنسعيد] بقيم الزاهدين وتخلق بخلق الأصفياء العارفين وألهم أجيال وأجيال من المناضلات والمناضلين الصادقين".
ورأى محمد بنسعيد آيت إيدر النور، عام 1925، في قرية تين منصور ضواحي اشتوكة آيت باها، جنوب المغرب، عاش اليتم وهو صغير، إذ فقد والدته في عمر السادسة. وكما يذكر في مذكراته المعنونة بـ "هكذا تكلّم بنسعيد"، درس في الراحل خلال تعليمه الأولي في الكتاب القرآني بقريته، لينتقل بعدها إلى المدرسة "بن يوسف" في مراكش.
وفي مراكش، بدأت المسيرة النضالية لبنسعيد آيت إيدر، حيث انضمّ للحركة الوطنية المقاومة ضد الاستعمار، ومثلت لقاءاته بقادة تلك الحركة، على رأسهم الراحل المهدي بن بركة، أحد اللحظات الفاصلة في مسيرته. وعكس التيار الذي كان يدعو للمقاومة السلمية، رأى بنسعيد أنه لا محيد عن حمل السلاح والقتال لانتزاع المغرب من "براثن الاستعمار"، وهو ما نادى به في عدد من المقالات التي نشرها وقتها في الصحف الوطنية. وعلاوة على ذلك، شارك بنسعيد آيت إيدر في قيادة جيش التحرير المغربي وتكوين خلايا المقاومة، إلى أن تولى منصب المسؤول السياسي لقيادة جيش التحرير في الجنوب.
هذا ما جر على الراحل سخط آلة الاستعمار الفرنسي القمعية، فألقت القبض عليه في عام 1952. ويحكي في مذكراته عن هذا الحادث، قائلًا: "ارتأيت في دجنبر (ديسمبر /كانون الأول) 1952، أن أسافر إلى الرباط لبحث سبل الاتصال بجريدة "العلم"، وتأمين وصول مراسلاتي التي تغطي ما يقع في الجنوب من أحداث. وقد تصادف هذا مع حدث اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، ففوجئت باضطراب الأجواء… وقفلت عائدًا إلى قريتي لأتعرض للاعتقال صحبة مسؤولين آخرين من حزب الاستقلال".
وأضاف بنسعيد في ذات المذكرات، بأنه "من أهم الأحداث، التي فرضت على قواعد الحركة الاستقلالية اختيار المقاومة المسلحة، ما عرف في مستهل الخمسينات بقضية أحمد الحنصالي. فعلى إثر اصطدام له مع إدارة الحماية، حمل السلاح في مبادرة شخصية وبدأ يغتال الفرنسيين، مروعًا الأطلس المتوسط كله… هذا الحدث ألهب حماس المغاربة، الذين رأوا في وقوف شخص واحد في وجه جيش مجهز بأعتى وسائل القتال رمزًا للبطولة والتحدي. وقبل قضية أحمد الحنصالي، كانت ثمة عملية كريان سنطرال (في الدار البيضاء) عام 1947".
وعقب نيل المغرب استقلاله عام 1956، طرأ خلاف بين مجموعة من أعضاء الحركة الوطنية والقصر، حول مسألة تفكيك ونزع سلاح جيش التحرير؛ فبينما طالب بنسعيد بعدم حل جيش التحرير، كان الملك يرى خلاف ذلك. وهو ما وضع بنسعيد آيت إيدر وجهًا لوجه مع النظام، ماكاد يؤدي إلى تصفيته وقتها.
وكتب آيت إيدر عن الواقعة: "تعرضت لمحاولة تصفية جسدية عام1957 مباشرة بعد إحباط التمرد. ولست أدري إلى اليوم كيف نجوت منها (…) كنت ضيفًا على مائدة العشاء عند صديق يدعى مايوحل بلقاسم، يقع بيته بضواحي كلميم (جنوب المغرب)، حيث كنت أعقد لقاءً سريًا مع عناصر متعاطفة ومتعاونة مع المقاومة وجيش التحرير، تعمل في جهاز البوليس، لمتابعة آخر ما وصلهم من معلومات جديدة في قيادة البوليس عن شبكات التآمر ضد جيش التحرير".
وأضاف: "لما غادرت منزل مايوحل، رفقة بنسعيد الصغير، فوجئنا بعناصر تشهر في وجهي أسلحتها الرشاشة، وتعلن مهددة أنها أتت لتصفيتي. وفي لمح البصر، كان بنسعيد الصغير قد صوب نحوهم سلاحه الرشاش وهو يصيح فيهم بأن يلزموا أماكنهم. أما أنا، فقد تجاهلت تهديدهم (…) تركتهم ومضيت أمامهم لا أنوي على شيء".
هذه المرحلة شكلت معالم الخلاف بين بنسعيد والنظام الحاكم بالبلاد، وعارض الراحل الدساتير المغربية الثلاثة، التي أتت بعد الاستقلال، معتبرًا إياها "دساتير ممنوحة". وإزاء ذاك، تعرض الراحل للاعتقال أحيانًا، وأحيانًا أخرى كان يفر إلى الجزائر، قبل أن يجد نفسه متهمًا في ما يعرف بـ"مؤامرة يوليوز 1963"، التي اتهم فيها عدد من مناضلي حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (الجناح اليساري المنشق عن حزب الاستقلال) بالتخطيط للإطاحة بنظام الحكم واغتيال الملك. وهو ما دفع بنسعيد إلى الفرار مجددًا إلى الجزائر بينما حكم عليه غيابيًا بالإعدام.
وظل بنسعيد في الجزائر إلى حدود عام 1964، بعدها سينتقل إلى فرنسا حيث انخرط في منظمة "23 مارس" ذات التوجه الماركسي اللينيني. وفي عام 1981، سيعود بنسعيد آيت إيدر إلى المغرب، بعد أن تلقى عفوًا ملكيًا عن الحكم الصادر في حقه. وحتى بعد هذه العودة، ظل "وفيًا لتوجهه اليساري وموقفه المعارض"، حيث أسس في عام 1983 حزب "منظمة العمل الديمقراطي"، الذي يعتبره البعض امتدادًا للمنظمة الماركسية المذكورة. وفي العام الذي تلى ذلك، تم انتخاب بنسعيد نائبًا برلمانيًا، ليبدأ مسيرة نضالية داخل المؤسسات.
وأسهم حزب "منظمة العمل الديمقراطي" في تأسيس الكتلة الديمقراطية عام 1992، ورغم الانشقاق الذي تعرض له لاحقًا، اندمج الحزب مع تيارات يسارية أخرى، لينتهي الأمر بتأسيس حزب "اليسار الاشتراكي الموحد" عام 2002، وتولية بنسعيد رئاسته الشرفية. ودخل الحزب عام 2007 في تحالف "فدرالية اليسار الديمقراطي"، بجانب كل من حزبي "حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي" و"حزب المؤتمر الوطني الاتحادي".
شارك بنسعيد آيت إيدر في قيادة جيش التحرير المغربي وتكوين خلايا المقاومة، إلى أن تولى منصب المسؤول السياسي لقيادة جيش التحرير في الجنوب
وكان الحزب "الاشتراكي الموحد" وتحالف "فدرالية اليسار"، أحد أعمدة حركة الـ "20 فبراير"، التي خرجت إلى الشارع المغربي خلال موجة الربيع العربي عام 2011، مطالبة بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتغيير نظام الحكم إلى ملكية برلمانية. ودعا بنسعيد وتحالفه إلى مقاطعة الدستور الذي خرج عن تلك المرحلة، لكن سرعان ما سيقرر التحالف العودة إلى النضال من داخل المؤسسات، عند دخول الانتخابات 2017 والحصول على مقعدين برلمانيين.
وفي عام 2015، وشّح العاهل المغربي محمد السادس، محمد بنسعيد آيت إيدر بوسام ملكي من درجة "الحمالة الكبرى"، نظير مساره السياسي والنضالي. ويعد هذا الوسام هو رابع من حيث تصنيف درجات الأوسمة الملكية المغربية، ويُمنح لمكافأة الأشخاص الذين قدموا خدمات متميزة ذات طبيعة مدنية أو عسكرية. وبالرغم من ذلك، ظلّ الراحل وفيًا لموقفه من البروتوكول الخاصة بـ "تقبيل يد الملك"، حيث رفض اتباعها خلال حفل التوشيح واكتفى بمصافحة العاهل مشددًا على أن التكريم الملكي "لن يغير موقفه بشأن ضرورة إرساء نظام ملكي برلماني في المغرب".