تشغل الحضارة الفرعونية حيزًا كبيرًا من تاريخ العالم، حيزًا لا يمكن إغفاله أو التغاضي عنه أو التعامل معه كحقبة عابرة، ذلك أن أسرار هذه الحضارة تحديدًا ما تزال حتى الآن أسرارًا لم يفقه العلماء كنهها، وما زالت خباياها متتالية الظهور والتكشف يومًا بعد يوم وما زال العالم ينبهر بها ويقف مشدوهًا أمام عظمتها وسحرها.
وقد كان اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون عام 1922 على يد عالم الآثار المصرية البريطاني هوارد كارتر من أعظم اكتشافات القرن لما وجد فيها من أسرار ومحتويات ما تزال سليمة كما هي بالإضافة لمومياء الفرعون توت عنخ أمون المحنط بطبيعة الحال، فمن هو هذا الفرعون وما هي أسرار هذه المقبرة وما هي محتوياتها؟
تولى توت عنخ أمون الملقب بالفرعون الصغير الحكم وهو في سن التاسعة، واستمر حكمه عشر سنوات قام خلالها بتشييد قصر "السنين" وإصلاح بعض التماثيل والأعمدة في معبد الكرنك وأنشأ المراكب المقدسة
لما يكون الموت سببًا للخلود
كنت أعرف قبل مباشرتي بكتابة هذا المقال اسم توت عنخ أمون أحد أشهر فراعنة مصر بطبيعة الحال، وانتظرت أثناء مطالعتي للمادة أن أرى مجموعة كبيرة من الإنجازات التي ترعرعت في حقبته والتي ظننت أنها كانت سبب شهرته بهذا الشكل، إلا أن المفاجأة كانت كبيرة عندما علمت أنه لم يحظ بهذه الشهرة نظرًا لإنجازاته وإنما جراء غموض حادثة موته!!
نعم، فلقد تولى توت عنخ أمون الملقب بالفرعون الصغير الحكم وهو في سن التاسعة، واستمر حكمه عشر سنوات قام خلالها بتشييد قصر "السنين" وإصلاح بعض التماثيل والأعمدة في معبد الكرنك وأنشأ المراكب المقدسة، غير أن التحويل الذي أجراه على عبادة الآلهة الموحدة التي أقرها أبوه أخناتون "أمنحوتب الرابع" كانت أعظم إنجازاته الفارقة، فلقد نقض بمساعدة الكهنة ما اعتمده أخناتون قبل موته في ذلك الوقت ليعيد المصريين لعبادة الآلهة المتعددة "أمون"عوضًا عن عبادة إله واحد "أتون".
وقد طالت فترة حكمه العديد من المناوشات نظرًا للخلل الذي أُحدث بسبب رغبة أبيه أخناتون قبل موته بتوحيد الآلهة عوضًا عن تعددها مما أشعل صدور الكهنة حتى رضخ لهم توت عنخ أمون فأعاد تقديس الآلهة المتعددة "أمون".
ويُعتقد أن حادثة موته كانت بفعل فاعل أي بغرض اغتياله، وقد استُدل على ذلك من خلال الآثار التي ظهرت على موميائه من كسر في عظم الجمجمة والحوض مما يعني تعرضه للأذى قبل موته، أما في دراسات أخرى يقول العلماء أن الكسر الذي في الجمجمة ما هو إلا فتحة أحدثت بعد موته لغايات التحنيط أما الكسر الذي في الحوض فلم يُعلم سببه ولكن رُجح أن التهابًا جراء إهمال العناية به سبب موت توت عنخ أمون، ودراسات أخرى أشارت إلى أن سبب الوفاة قد يكون بسبب مرض جيني في عائلته، إلا أن كل هذه تبقى مجرد فرضيات بطبيعة الحال.
مقبرة وادي الملوك..من القعر إلى القمة
ظلت أخبار توت عنخ أمون مختبئة تحت ركام الرمال حتى اكتشاف مقبرته، والتي تدل هيئتها البسيطة على أنها لم تصمم لتكون مقبرة ملك إلا أنها الوحيدة من بين مقابر ملوك الفراعنة التي وجدت شبه سليمة مع ما تحويه من مقتنيات تخص الفرعون توت عنخ أمون.
في عام 1922 وطأت قدما العالم البريطاني هوارد كارتر غرفة الضريح الخاصة بتوت عنخ أمون بعد 3000 عام مضت على وجوده فيها، وقد اكتشفها عندما كان يجري حفريات عند قبر الملك رمسيس الثاني بعد أن لاحظ وجود درجات تقود إلى قبو مخبأ، وهكذا استمرت الحفريات الدقيقة تحت إشرافه إلى أن وصل إلى المقبرة، وقد كان اكتشافها في ذلك الوقت خبرًا ضجت به وسائل الإعلام حول العالم وحادثة أثارت العلماء لدراستها والتمعن بها وبما تقود إليه نحو أسرار جديدة مخبئة.
تتكون مقبرة توت عنخ أمون المعروفة بالرقم KV62 من أربع غرف ودرج مدخل وممر. وهي أصغر حجمًا وأقل زخرفة من المقابر الملكية المصرية الأخرى في عصرها ويُرجع العلماء سبب ذلك لموت توت عنخ أمون المفاجئ حتى أن المقبرة لم تكتمل بعد.
تم دفن توت عنخ آمون مع مجموعة واسعة من الأشياء الجنائزية والممتلكات الشخصية، مثل التوابيت والأثاث والملابس والمجوهرات كما جرت العادة مع الفراعنة آنذاك، إلا أن الجدير بالذكر هو ما يشير إليه العلماء من احتمالية تعرض هذه المقبرة للسرقة بعد إغلاقها بوقت قصير مستدلين على ذلك بهيأتها الفوضوية قليلًا بالإضافة لوجود أختام متعددة على بابها، مما يشير إلى أنه تم إغلاقها لاحقًا في عهد أحد الفراعنة اللاحقين، ثم بقيت على حالها مختبئة تحت مقابر أخرى في وادي الملوك حتى تم كشف الستار عنها.
تضم جدران المقبرة كحال كل جدران مقابر الفراعنة المصريين العديد من النقوش والرسومات والرموز التي تحتوي على صور لتوت عنخ أمون وتخبر عن انتقاله من عالم الأحياء إلى عالم الأموات بالإضافة لأجزاء من كتاب الموتى عند الفراعنة.
لعل أغلى الثروات الموجودة في مقبرة توت عنخ أمون هو القناع الذهبي الجنائزي الخاص بالملك والذي يعرض في المتحف المصري الكبير في مدينة الجيزة بجانب العديد من المقتنيات الأخرى التي تم اكتشافها هناك فيما عدا مومياؤه التي ما تزال تعرض في المقبرة ذاتها مع التابوت الحجري الخاص بها.
هناك ما يقارب من 30 قبرًا ما زالت تغرق في ركام الرمال في مقبرة وادي الملوك في مدينة الأقصر بمصر، أي أنه ما يزال هناك 30 كنزًا مخبوءًا ينتظر اكتشافه
خبيئة ذهبية.. رسالة لا غبار عليها
تنسب الأمتعة المكتشفة في مقبرة توت عنخ أمون إلى الأسرة 18 وهي من الأسر الفرعونية التي كان لها دورًا كبيرًا في نهضة الدولة الحديثة في ذلك الوقت أشهر وأزهى عصور الدولة الحديثة حيث انفتحت البلاد على أقاليم الشرق الأدنى القديم بفضل الحملات العسكرية والعلاقات التجارية من تصدير واستيراد للموارد والمنتجات المصنعة ونشاط أهل الحرف والفنانين، وتنبع أهمية اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون من أهمية مقتنياتها التي في معظمها أظهرت للمرة الأولى على خلاف ما سبقها من اكتشافات طبيعة حياة الفراعنة بشكل جلي، يعود سبب ذلك لوصولها أيدينا وهي سليمة بشكل أكبر عن غيرها من المقابر الأخرى، غير أنها تتكون من 358 قطعة تشمل القناع الذهبي الرائع وثلاثة توابيت على هيئة الإنسان، أحدها من الذهب الخالص والآخران من خشب مذهب.
يضاف إلى المقتنيات الفريدة في المقبرة كذلك أمتعة الحياة اليومية كالدمى، ومجموعة من أثاث مكتمل وأدوات ومعدات حربية، وتماثيل للأرباب تتعلق بدفن الملك وما يتعلق به من شعائر، وبوق توت عنخ آمون الشهير المصنوع من الفضة وأخر من النحاس، كل هذا يشكل فكرة واضحة عن طبيعة حياة الفراعنة في ذلك الوقت وكل هذه المقتنيات تعرض الآن في المتحف المصري بالقاهرة. أضف إلى ذلك كله كرسي العرش الوحيد الذي وصل إلينا من ذلك العهد سليمًا في مقبرة توت عنخ أمون.
تعتبر مقبرة توت عنخ أمون أحد أهم الآثار الكبرى في قلب مصر، وتشير الدراسات إلى أن هناك ما يقارب من 30 قبرًا ما زالت تغرق في ركام الرمال في مقبرة وادي الملوك في مدينة الأقصر بمصر، أي أنه ما يزال هناك 30 كنزًا مخبوءًا ينتظر اكتشافه، ولعلي لا أعني هنا بالكنز قيمته المادية وإنما هذه العتاقة المسافرة عبر سنوات طويلة من الزمن، لعلكم تتخيلون معي رعشة بلوغ الدهشة التي لازمت فريق البحث في مقبرة توت عنخ أمون وهم يوقنون أنهم أول من وطأت أقدامهم تلك الحجرات، إنها رهبة اكتشاف المجهول الذي يقود بدوره لمجهول يقود لغيره، وهكذا، كما عودنا قدماء الفراعنة.