يستقرّ كرسيّان من الجلد ذي لون الأسود في الجهة الشماليّة للمكتب، إلى جانب نافذة من الألمنيوم الفضيّ يحفّها من الجانبين ستائر بلونٍ حليبيّ عليها رسوم أغصان وأوراق بنّية هادئة التطريز. تشرف النافذة على قاسيون، وتعكس ما يتداعى على الشاشة الفضّيّة. يستحوذ مكتب المحقّق وخلفه كرسيّ من النوع الدوّار على كامل المساحة المحاذية للحائط الداخليّ للغرفة الذي تتوسّطه صورة بإطار أسود مذهّبٍ لرئيس البلاد. لقد ولج المحقّق هذا المكتب مرّات كثيرة قبل أن يصبح له، ومع ذلك ما زالت تعتريه ذات الدهشة بسبب الرؤية البانوراميّة لجبل قاسيون التي يتمتّع بها الناظر من خلف المكتب الخشبيّ.
كانت الفضائيّة السّورية تبث وقائع صلاة عيد الأضحى. هذا ما يظهره تلفزيون سيرونكس نوع 29 بوصة بإطار رماديّ وهيكلٍ أسود ثُبّت على الحائط في جانب المكتب. تتردّد وتتجاذب كلمات الإمام وغمغمات المصلّين في فضاء الغرفة، وتختلط مع أصوات الجوامع القريبة من مبنى الجنائيّة مشكّلة عصيرًا متجانسًا من الضجّة.
تشي هيئة المحقّق بمتابعته لمشهديّة الصلاة باهتمام بالغ، بينما تدور وقائع جدل بيزنطي في دماغه عن الغاية من ردّ النبي إسماعيل: "قالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّه مِنَ الصَّابِرِينَ" (1)، متوقفًا بشكل منطقيّ ولربّما حتميّ عند الفعل "تُؤَمر" المبني للمجهول نحويًّا، وهذه النقطة اللغويّة تؤدّي إلى أنّ الابن كان يشكّك في رؤيا أبيه دلاليًّا على الأقل، وأنّ موضوع الرؤيا الحلميّة ليس من الله، وإلّا ما نفع بناء الفعل للمجهول بدلًا من المعلوم مع أنّ تتمّة الآية تكشف بوضوح إيمان الصبيّ بالله عبر الرّجاء كي يمدّه بالصّبر على هذا الامتحان الذي وجد نفسه فيه. يعرض الأب على الابن الرؤيا طالبًا إليه أن يختار: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ" (2).
إذًا، كان الأب بذاته يشكّك أيضًا في مضمون رؤياه، مخالفًا بذلك طبيعة الأمر الإلهيّ الواجب التنفيذ، الذي لا يتضمّن الخيار لكلّ من المأمور وموضوع الأمر؛ ومن ثمّ كيف يُفهم المعنى، مادام سياق الآيات اللاحقة تضيف موضوعة "وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ" (3) فالفداء لا يكون إلا سدادًا لدينٍ مستحق! إذًا: ما هو هذا الدّين الذي ترتب على الولد؟ أو الأصح ما جريمته حتّى يُدفَع به لأن يكون أضحية أو ضحيّة؟!
ضبط المحقّق تناسل الأفكار في رأسه بعدما زلّت عينه على اسم كتبه بشكل لا شعوريّ على قصاصة من الورق الأبيض يستخدمها عادة في تدوين ملاحظات طارئة من خارج نهج تفكيره، ويفعل ذلك عادة، عندما يبدأ بالإعداد لتقريره عن إحدى الجرائم التي يبحث في خفاياها.
كان الاسم الذي كتبه، هو راسكولينكوف بطل رواية الجريمة والعقاب للروائيّ الروسيّ دوستويفسكي فتبادرت إلى ذهنه أنّ جريمة راسكولينكوف، مع أنّها مجرد تخيّل روائيّ إلّا أنّ التاريخ البشريّ يتعامل معها كجريمة فائقة الدلالات إلى درجة لا يمكن التشكيك بعدم حصولها بشكل واقعيّ.
لقد عُوقب راسكولينكوف، ونفي دوستويفسكي على الرغم من أنّ فرويد يعتبر الإبداع الكتابيّ تصعيدًا للمكبوتات غير المتحقّقة، وبغير هذا المنطق تصبح أغاثا كريستي أعظم قاتلة متسلسلة في التاريخ.
من هذا المنطلق ألا يعتبر حلم النبيّ إبراهيم تصعيدًا لمكبوت لا شعوري يقضّ مضجعه، وبالتالي لم يكن استسلام الابن على الرغم من تشكيكه بمصدر الرؤيا إلّا لأنّه سيرث هذا اللاشعور من أبيه، فالجرائم كالدّيون تورّث.
رفع نظره عن قصاصة الورق وحدّق بالشاشة الفضّيّة، ومن ثمّ أمسك الريموت كونترول وبدأ في تقليب قنوات التلفزيون حتّى استقرّ على قناة تعرض مسرحيّة "ريّا وسكينة" تغنيان: "شبكنا الحكومة وبقينا قرايب".
افترّت شفتاه عن ابتسامة، ثم تحوّلت إلى ضحك وقهقهة، فاستغرق في مشاهدة المسرحيّة ناسيًا أضحية النبي إبراهيم وراسكولينكوف وسيغموند فرويد، مستمتعًا بالمرافعة التي قدّمتها كلّ من "ريّا وسكينة" تبريرًا لكل جرائم القتل المرتكبة من قبلهما، و فكّر كيف أنّ القاتل يجد ألف سببٍ عقليّ لتبرير جريمته، لكن لماذا لا تكفي تلك الأسباب كحجج يمكن أن تقوده للبراءة مع أنّها عقلية!؟
لم يتابع خاتمة المسرحية، فقد كتم صوت التلفزيون وشطب التفكير الجدليّ السفسطائيّ بألف سبب لتبرير الجريمة، فقد رنّ الهاتف قربه، مدّ يده بضجر، رفع سماعة الهاتف وأجاب: احترامي سيّدي!
على الطرف الآخر من خطّ الهاتف جاءه صوت العميد يسرد بكسل حيثيّات جريمة وقعت في مسرح القباني قُبيل ظهر اليوم وكأنّه صوت الممثل عبد المنعم مدبولي يقول: "ما تشيلو الميتين اللّي تحت" (4)، فأنصت جيدًا إلى ما يقوله العميد: إنّ قرار النيابة العامّة بالتوسّع في البحث والتحرّي قد اُتخذ، أمّا تقرير الطبيب الشرعيّ الأوّليّ والمشتبه به فسيصلان إلى مبنى الجنائيّة بعد قليل؛ صمت العميد لبرهة وكأنّه يزفر دخان سيجارته، ثمّ أكمل بأن الجثّة قد نقلت إلى المشرحة، وأردف بضرورة إعطاء التحقيق كامل الاهتمام لأنّ تداعيات جريمة من هذا النوع يجب أن تُكبح. ختم العميد كلامه بالسؤال عن سيارة المرسيدس (300/ شبح) التي كوفئ بها المحقّق من قبل وزير الداخلية بعد أن أوقع بشبكة كبيرة للمتاجرة بالمخدرات بين لبنان وسوريا، فعقّب المحقّق: إنّ السيارة في الحفظ والصّون، وهي في خدمة العدالة أبدًا. كرّت قهقهة العميد كمركبة تعطلت كوابحها، قائلًا للمحقق: لسانكَ أطول من قصبة مسدسك، أيّها المحقّق، وأغلق سماعة الهاتف بعدها مباشرة. لم يصدم المحقّق من تصرّف العميد، فلقد حفظه كأغنية سوقيّة من اللواتي يصدحن في كراجات العباسيّين، وهكذا في الاتصال الذي يلي هذا، سيكمل العميد حسّه الفكاهيّ وسيضحك المحقّق بالضرورة على نكاته لكنّه سيردّ الصّاع مضاعفًا، ومنكّهًا بألوان من بهارات الأدب والاحترام اللّذين يأمر بهما تسلسل الرتب السلطوية.
وزّع المحقّق أوامره على عناصر الشرطة؛ ما إن يصل المشتبه به، فليُوضع في غرفة التحقيق في الطابق تحت الأرضيّ، وأن يوافى مباشرة بإضبارة الجريمة. تفقّد هاتفه الجوال وعلبة دخان الحمراء الطويلة. دخل الحمّام وأفرغ صهريج مثانته، متمتمًا: "لماذا لم تدقّوا جداران الخزان" (5) انتابه شعورٌ مبهمٌ، قد يكون نوعًا من الأسف بسبب أنّ أهمّ مشهد في المسرحية فاته مشخّصًا له باللّحظة التي يعود فيها الممثّلون إلى تحيّة الجمهور، وكأنّهم يومئون بأنّ كُلّ الفرح والحزن والضحك والبكاء مجرّد أقنعة.
كان لوقع بوله في كرسيّ المرحاض صوت صياح ديك بطرس، رشقتان قصيرتان من السائل المالح، وبعدها دفقة طويلة من الإنكار. هزّ عضوه ليخلّصه من شبهة قطرة بول عالقة وفي خاطره أنّ العمر مازال شبابًا ولم يحنْ زمن الشيخوخة كي يهزّه بقوة أكبر كما تهتزّ يدٌ مصابة بالشلل الارتعاشيّ. فتح حنفية الماء، فتدفق السائل عديم اللّون على كفّيه يحمل لسعة برودة، ثمّ رشق وجهه بالماء مدلّكًا إيّاه بأصابعه وقبل أن يجففه من قطرات الماء، حدّق في انعكاس وجهه في المرآة الصدئة الحوافّ بسبب بخار الماء الساخن، والرطوبة في الحمّام التابع للمكتب، فلم يجد ما يلفت النظر، فلا علامة مميّزة كشامة، أو وحمة، أو حتّى ندبة وللحقيقة هذا الأمر كان يسعده، فمن الصعوبة لذاكرة عاديّة أن تحفظه بسهولة، وتسترجعه عندما تلقاه، ولكي يحدث أن تصبح ملامح وجهه ضمن ذاكرة أحدهم لابدّ من عدّة لقاءات.
في وجهه شيء من صفات الشّبح، فهو موجود وغير مرئيّ، هذا الأمر جعله قادرًا على تضليل من يستجوبهم، فلا يقدرون على تكهّن فيما إذا كان لصمتهم، أو إنكارهم، أو حتّى فبركة خبر يفيد في تغيّبهم عن مسرح الجريمة أيّة فائدة تُرجى؛ فملامحه كأنّها حجرٌ ينبو عنها تأثره أو انفعاله، والآن يبحلِق في تفاصيل وجهه أمام المرآة ناكشًا تربته باحثًا عن أيّ تبرّم أو ضجر أو غضب من الهاتف الذي سلّه من الاستمتاع بالمسرحية، فلم يجد لذلك شبهة. رسم ابتسامة متهكّمة على شفتيه، واستدار إلى الخلف على كعب رجله بشكل لا إراديّ، فقد اكتسب تلك العادة من نظام البروتوكلات في كليّة الشرطة التي تخرّج منها في بداية الألفيّة الثالثة لكن قبل ذلك مدّ يده إلى خزّان المرحاض وضغط بأصبعه الأوسط، فخرّ الماء مشكّلًا دوامة صغيرة ابتلعت السائل الأصفر؛ ظلّ في مكانه حتّى تناهى إلى سمعه صوت الماء يملأ الخزان من جديد؛ صفّف شعره الفضيّ اللون، وعطّر نفسه بعطر "لا كوست" واتجه إلى نافذة المكتب وسرح ببصره نحو أبنية دمشق، ومن ثَمّ هبط به نحو سيارته المرسيدس موديل (300/ شبح) وهمس لنفسه: لو أنّ الحياة كخزان المرحاض تفرغ بضغطة من الأصبع الوسطى.
- مقطع من رواية "جريمة في مسرح القباني.. الحدّ والشبهة" التي صدرت مؤخرًا عن "دار ميم" في الجزائر.
هوامش:
- قرآن كريم
- قرآن كريم
- قرآن كريم
- جملة من مسرحية ريا وسكينة
- جملة من رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"
اقرأ/ي أيضًا: